في هذه الأيام أصبح بعض القضاة الذين لم يكونوا يجرؤون على فتح أفواههم خلال «سنوات الرصاص القضائي» خارج عيادات أطباء الأسنان، يتحدثون بإسهاب عن استقلالية القضاء وحماية القضاة من أي تأثير من أي نوع، وهو حديث سليم ومنطقي في دستور ما بعد 2011 الذي فتح أفواه قضاة كانوا يحتفظون بألسنتهم مطوية بعناية داخل أفواههم.
لكن الغريب والعجيب أن تنخرط في هذه «المندبة» أسماء تركت بصمتها التي لا تمحى في جبين القضاء، وتاريخها يشهد بأنهم كانوا إلى الأمس القريب طواحين في أيدي متنفذين يطحنون بها المتهمين والأبرياء على حد السواء، وكانوا لقمة سائغة لمسؤولين لفظهم الشعب، لكن بقي هؤلاء القضاة محميين بعباءة القضاء المفترض أن يكون عادلا ومنصفا للجميع وملاذ كل مظلوم.
نقول هذا الكلام ونحن نتابع بشفقة بالغة اندفاع البعض لتصدر المشهد القضائي بعد أن كان نسيا منسيا مدة طويلة، وظن أن اختباءه في الظل لعشر سنوات أو أكثر كاف لمحو التاريخ الأسود الذي شارك فيه مشاركة حاسمة، تماما هذا حال من نصب نفسه ناطقا رسميا باسم الودادية الحسنية للقضاة نور الدين الرياحي، الذي كان عليه أن يكمل مشواره المهني «بسكتة» مفتوحة بعدما سكت 15 سنة إثر إعفائه من مهامه كوكيل عام، وهو الإعفاء الذي كان في إطار تصفية تركة وزير الداخلية الراحل إدريس البصري، وليس كما يروج له المحامي العام المحترم في ورقة حملته الانتخابية للترشح لمنصب رئيس الودادية الحسنية، بأنه كان عن اختيار منه للتشرف بالانتماء لمحكمة النقض.
فقد شبه سعادة المحامي نفسه في ندوة صحافية، بسمكة السلمون التي تسبح عكس التيار وشبه خصومه من القضاة بالأسماك الميتة التي تسير مع التيار.
ونسأله بالمناسبة هل نسي أنه أحيل على المجلس التأديبي حول ثروته التي جمعها والتي يدير جزءا منها اليوم ابنه المدلل؟ وهي الثروة التي يعجز وزير العدل حتى عن مجرد طرح سؤال بسيط حول مصدرها، تنفيذا للوعد الذي أعطاه في ندوته عندما توعد القضاة بمراقبة علامات الثراء التي تظهر عليهم.
كما نسأله هل يستطيع أن يتذكر عدد ضحاياه من القضاة ومن الموظفين حتى لا نقول من المواطنين؟ هل ستسعفه ذاكرته ويتذكر القاضي الذي كان سعادته سببا في معاقبته من خلال نقله إلى تازة عبر سوط الانتداب القضائي، لا لشيء إلا لرفض هذا القاضي مسايرته للإيقاع بقاض آخر؟ مع العلم أن هذا القاضي لا يزال حيا يرزق ويشتغل رئيس غرفة بمحكمة النقض، وهو القاضي الذي أرجعه وزير العدل الأسبق أمالو بعدما عرف قصة نقله.
وهل يتذكر القاضية التي استدعاها سيادته وكانت تعمل بالغرفة الاجتماعية بالدار البيضاء، وطالبها بإصدار حكم قضائي لصالح إحدى الشركات المحبوبة لديه في مواجهة عمال عزل؟ ولم تلتفت هذه القاضية لمطلبه وحكمت لفائدة العمال، الأمر الذي جلب عليها غضب الوكيل العام الاستثنائي، وهي اليوم رئيسة غرفة بمحكمة النقض.
سيادة المحامي العام الرياحي لم تقف «بركاته» عند القضاة فقط، بل وصلت حتى إلى رؤساء المحاكم، ومنهم أحد رؤساء المحكمة الابتدائية بالحي المحمدي عين السبع آنذاك، وهي المحكمة التي يتواجد بنفوذها الترابي الكثير من المقرات الاجتماعية للعديد من الشركات، تم تجريده من المسؤولية وإلحاقه بمحكمة النقض بحجة عرقلة حملة التطهير المشؤومة سنة 1996، وما كان التجريد ليكون لولا ضغط صاحبنا المدافع عن استقلال القضاة اليوم. والضغط نفسه مارسه على أحد القضاة بمدينة الجديدة أيام كان وكيلا للملك بها، لا لشيء إلا للنيل من رئيس المحكمة المعروف فيها آنذاك بالسيرة النظيفة، وامتناع هذا الأخير عن مجاراة رغبات سيادة الوكيل الذي استأنس بالمسؤولية حديثا بعاصمة دكالة.
وعلى ذكر الجديدة نهمس في أذنه عن أحوال فيلا الأوقاف التي خصصت لسيادته بشارع الرافعي، والتي تحولت اليوم إلى خربة بعدما شهدت «المجد» في عهده، والتي كان العون صاحب البدلة الأنيقة سي عبد الله ذو السلم 1 في وظيفته مكلفا بإعدادها.
وعودة إلى حملة التطهير المشؤومة لسنة 1996، التي مورست بسببها شتى أنواع التهديد والترهيب والتضييق على التجار ورجال الأعمال والموظفين آنذاك، حيث أدت الحركة التجارية بالمغرب ثمنا باهظا ولم يحصد المغرب منها غير الذباب الأزرق، كما سبق لوزير العدل الأسبق المشيشي العلمي أن قاله في أحد لقاءاته التلفزيونية، ولحسن الحظ أنه لما علم الملك الحسن الثاني بحقيقة ما وقع أصدر عفوا على التجار والموظفين المتابعين، ومع ذلك فقد تسببت الحملة في تهريب أموال طائلة إلى الخارج آنذاك وخلق أزمة مجانية.
كل هذا بسبب سلوك النيابة العامة ومسؤولها آنذاك الذي ليس هو إلا صاحبنا الرياحي. وهذه الحملة عرفت خروقات كبيرة بدأت بتعيين المعني بالأمر وكيلا عاما بالنيابة دون وجود منصب، كما أسند الاختصاص دون سند قانوني لأنواع هذه القضايا بالمغرب لوكيل الملك آنذاك، هذا الأخير الذي بدأ يوجه التعليمات والأوامر للوكلاء العامين، لدرجة أن أحد الوكلاء العامين وصف ما وقع بسنوات الرصاص القضائي، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن سيادته أحدث مكتبا للشرطة بالمحكمة الابتدائية بالدار البيضاء حتى يملي عليها ما أراد وقت ما أراد.
وللتذكير، فقد سبق لصاحبنا المدافع عن استقلال القضاء، أن أحيل على المجلس الأعلى للقضاء للتحقيق معه في مصدر ثروته، ولولا تدخل وحماية إدريس البصري له لما توقف البحث وربما كانت أوضاعه عكس ما هي عليه اليوم.
وفي عهد الوزير عزيمان أرسل له الأخير المفتشية العامة ورفض آنذاك قبول تفتيشها، وقال في وجه أعضائها «غير تخرجو من البيرو ديالي ولا نخليه لكم». وهو ما فعل حيث خرج من مكتبه وتركهم لوحدهم، فما كان إلا أن غادر المفتشون مكتبه ورفعوا تقريرا في الموضوع للوزير الذي عمل على استدعائه للوزارة، ورفض المثول في المرة الأولى ولم يحضر إلا بعد استدعائه للمرة الثانية.
لكن الذي فاجأ الوزير هو أن الرياحي أتى برزم من الملفات وأصبح يعدد المتدخلين في تلك الملفات القضائية من المسؤولين النافذين بالدولة وبالوزارة وأنهى مرافعته بقوله: «السيد الوزير لقد تحولت إلى صطوندار ونسيت حتى خطي ولم أعد أتعامل إلا بالهاتف»، وهو ما صدم الوزير وقال له أعذرني فأنا أيضا «عاد جيت للوزارة». وبعد مدة قصيرة تم إعفاؤه وإلحاقه بمحكمة النقض محاميا عاما إلى اليوم.
أما عن سلوكه إبان سنوات الرصاص القضائي، فكل من عمل معه يحتفظ في ذاكرته بقصص كثيرة، إذ كان لا يبادل أحدا التحية، كما أنه غالبا ما يضع يده في جيبه حتى لا يصافحه أحد، فما كان حظ القضاة منه سوى الازدراء، بل حتى سيارات القضاة التي كانت تركن أمام المحكمة الابتدائية غالبا ما كانت تودع بالمحبس البلدي بأمر منه، مع أنه في حقيقة الأمر كان موظفا شبحا لا يحضر الجلسات إلا قليلا ولا يحرر حتى ملتمسات النيابة التي لا تتعدى صياغتها خمس دقائق.
ولكونه استفاد من المسؤوليات التي مر بها من الجديدة والمحمدية والدار البيضاء وغيرها، لم يكن ليخرج خالي الوفاض، فهو صاحب ضيعة فلاحية كانت تنتج العنب، ولما علم بأن الطريق السيار الدار البيضاء الجديدة سيخترق ضيعته، غير منتوجه من العنب إلى شجر الزيتون وغرس أعدادا مضاعفة للعدد المعمول به حتى يحصل على تعويضات كبيرة من نزع الملكية، لكون التعويض يأخذ بعين الاعتبار من بين ما يأخذ عدد الأشجار التي كانت مغروسة في الملك.
الدلائل كلها كنت تظهر أن الرياحي كانت له يد طويلة في القضاء أيام البصري، وبعد تغير الأجواء السياسية بالمغرب بدأت أرصدته تتراجع في بورصة الوزارة، لكن في السنوات الأخيرة استرجع أنفاسه واستطاع أن يرجع للصدارة من جديد مستفيدا من قرابته من الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، هذا الأخير الذي لم يدخر جهدا لدعم ترشح صهره لانتخابات الودادية الحسنية للقضاة، وتمكن أيضا من تقوية جذوره في الجسم القضائي عبر استغلال جميع معارفه وطرقه، حتى سمعنا بتنصيب الرميد لبنت مدينته سيدي بنور وكيلة للملك لدى المحكمة التجارية بالدار البيضاء، والتي ليست إلا زوجة سعادة المحامي العام، وتنصيب سعادة الوزير لابن خالة نفس المحامي العام وكيلا للملك بقصبة تادلة.