لعل أفضل تكريم للراحل الطيب الصديقي رحمه الله سيكون هو إعادة بث فيلمه الطويل «الزفت» لكي يشاهده الجيل الجديد ويتذكره الجيل السابق.
فيبدو أن الزفت أصبح موضوع الساعة، وعنوانا للفساد الذي ينخر الجماعات المحلية، إلى درجة أصبح معها تقشير الطرق المزفتة مثل البطاطا رياضة وطنية.
وعندما نسمع، ونحن في السنة 16 من القرن الواحد والعشرين، أن وزيرا للعدل، بوصفه رئيسا للنيابة العامة قرر متابعة قضاة تأديبيا بناء على شكاية برلمانيين ينتمون إلى أغلبيته الحكومية، وأن وكيلا للملك بمحكمة آسفي قرر متابعة شاب قشر طريقا «الحرشة قصح منها»، بتهمة تسفيه صفة رئيس المجلس القروي لجمعة سحيم بناء على شكاية تقدم بها هذا الأخير، فإن أول سؤال يتبادر إلى ذهننا هو إلى أين تسير بنا حكومة عفا الله عما سلف؟
وما هو مصير الاختيار الديمقراطي للمملكة في ظل هذه الحكومة، والذي يقول الدستور، يا حسرتاه، بأنه لا رجعة فيه؟
ومن خلال تتبع شريط الفيديو العفوي الذي شاهدناه، كما شاهده العالم معنا، نقف على خطورة ما قام به هذا الشاب من تهديد للأمن العام وإثارة الفزع والخوف في نفوس المواطنين، إلى درجة استدعت اعتقاله على الفور، لأن هذا الشاب وهو يمسك بقطع الزفت الرخوة التي تسيح بين يديه كما لو كانت مصنوعة من الزبدة، ويقذف بها أمام الكاميرا، وقد ظهرت تربة الترس الخصبة تحتها خالية من أية معالجة تقنية، قد قام بالكشف عن عورة الفساد والاستبداد الذي وعدنا الحزب الحاكم بمحاربته، رغم أن بطل الفيديو لم يكن يتصور، وهو يمازح صديقه بكل عفوية، بأنه يضع يده في عش للدبابير.
ورغم أننا لم نسمع أية عبارة للسب أو القذف خرجت من فم هذا الشاب المرح، ولم نسمعه يتهم رئيس الجماعة مباشرة بأي اتهام، فإن واقع الحال فرض على الرئيس أن يهرب إلى الأمام، وأن يتقدم بشكاية للمداراة على فضيحته، على منوال المثل الشعبي القائل «مول الفز يقفز».
وها قد رأينا فيديو آخر لرئيس جماعة ثلاث الكدرة وقد خرج من مكتبه لاقتلاع الزفت الذي وضعته الشركة نفسها في الطريق التي زفتتها عليها، معلنا عدم قبوله بالصمت والتواطؤ مع الفساد، فهل سيأمر وكيل الملك باعتقاله ومتابعته هو كذلك بتهمة تسفيه نفسه؟
وإذا كان إدريس جطو ومصطفى الرميد ومصطفى الخلفي وحصاد ورئيسهم بنكيران، سيبتلعون ألسنتهم ويسكتون عن هذه الفضيحة المدوية، فإن من حق الرأي العام أن يعرف ما هو ذنب ذلك الشاب ذي الـ23 ربيعا حتى يزج به رهن الاعتقال الاحتياطي ويساق إلى السجن كما لو كان مجرما خطيرا، في حين لا يفتح أي تحقيق مع رئيس الجماعة صاحب الشكاية، أو مع الشركة صاحبة التزفيتة.
وحتى لا يعتقد الناس أن قرار اعتقال الشاب المكراوي قرار معزول، فإنه تتعين معرفة أن المتابعات بناء على تهم السب والقذف لا يمكن أن تتم بدون استشارة وزارة العدل، فما لا يعلمه الكثير منا، عدا من اكتوى بنار المتابعات طبقا لقانون الصحافة والنشر، هو أن وزارة العدل في إطار تلميع صورة الحكومة في الخارج، وحتى لا يقال إن هناك متابعات كثيرة في قضايا السب والقذف، قد أصدرت توجيهات إلى وكلاء الملك بمختلف المحاكم المغربية تأمرهم بحفظ الشكايات المستندة على تهم السب والقذف، وتوجيه المتضررين إلى رفع شكايات مباشرة ضد خصومهم، والتي غالبا ما تقبل شكلا ويستجاب لها مضمونا حتى ولو لم تستوف كل الشروط القانونية المطلوبة، وذلك كحيلة من وزارة العدل وما تبقى من حريات لكي لا يقال في المحافل الدولية بأن حرية التعبير مقيدة بالمغرب، وحتى تبرر الأحكام الكثيرة والثقيلة الصادرة ضد الصحافيين بكونها نتيجة شكايات مباشرة ضدهم، صادرة عن أشخاص متضررين في إطار ما يكفله لهم القانون من حقوق كضحايا، ولا دخل للحكومة فيها.
هذا في الوقت الذي تحتفظ فيه وزارة العدل لنفسها برصيد من المتابعات عن طريق النيابة العامة تستعمله عند الضرورة في حدود المعايير المقبولة دوليا، وتوظفها كلما تعلق الأمر بقضية من القضايا التي تهم وزراءها أو محظييها، وهذا ما وقع عندما جاد علينا السيد رئيس الحكومة في جريدة «الأخبار» بمتابعات لفائدة وزراء حكومته وحرك وزيره في العدل المتابعة ضدنا بناء على تعليمات منه، بخصوص عزيز رباح في ملفين وحكيمة الحيطي وعبد العظيم الكروج في ثلاثة ملفات لا تزال رائجة أمام المحاكم، فيما حركت رقية الرميد وزير العدل وإخوة رباح ووالد الكروج وغيرهم شكايات مباشرة ضدنا بمختلف المدن المغربية.
لذلك فإن استعمال سلاح متابعة النيابة العامة في قضايا السب والقذف لا يمكن أن يمر بدون الحصول على الضوء الأخضر من وزير العدل وما تبقى من حريات، إلا إذا كان وكيل الملك بآسفي قد تابع عبد الرحمان المكراوي في تحد منه لتعليمات رئيسه التسلسلي الأعلى وخالف توجيهاته في ما يتعلق بالسياسة الجنائية الواجب اتباعها، وسنكون في الحالتين معا أمام المسؤولية السياسية والأخلاقية لوزير العدل، الذي تعود في كل مرة يقع فيها تجاوز للقانون واعتداء على الحريات العامة على التذرع بكونه «ما فراسوش»، قاذفا بالكرة في مرمى وزارة الداخلية، دون أن يكترث إلى كونه بذلك يسجل هدفا ضد مرماه، مثلما حدث مع واقعة تعنيف الأساتذة المتدربين.
وهذا بالضبط ما قام به عزيز رباح، وزير التجهيز والنقل، الذي عندما لاحظ ارتفاع أصوات المطالبين بمحاسبته بسبب الطريق «المزفتة»، سارع في صفحته الرسمية بالفيسبوك إلى تبرئة نفسه، ملقيا بالمسؤولية على عاتق وزير الداخلية ورئيس المجلس الأعلى للحسابات.
وحتى لو اتفقنا مع وزير التجهيز والنقل حول مسؤولية وزير الداخلية ورئيس المجلس الأعلى للحسابات في هذه الفضيحة، فإن هذا لا يشفع لوزير البيصارة ولا يعفيه من فضيحة الطريق السيار بآسفي، والذي تتولاه شركة تركية يدلعها الوزير إلى درجة لم يعد أحد يعرف متى ستنهي هذا المشروع المتعثر.
وإذا كان وزير التجهيز يطالب زميله في الداخلية بتحمل مسؤوليته في محاسبة رئيس الجماعة، ويطالب إدريس جطو بمراجعة الصفقات التي أبرمها رئيس الجماعة مع الشركة التي «زفتت» تلك الطرقات، فإنه يتعين على معالي الوزير أن يقول لنا ماذا فعل هو مع شركة «نورول» التركية التي أثبتت تقارير مختبرات الطرق السيارة أن الشركة استعملت موادا غير مطابقة ومغشوشة في بناء الطريق السيار؟
غير أن الخطير في قضية الشاب المكراوي ليس هو المتابعة في حد ذاتها، بل قرار الاعتقال الاحتياطي، وهو ما يتعارض كليا مع ضمانات حرية التعبير المتعارف عليها دوليا، ومن بينها عدم جواز تطبيق مسطرة التلبس في قضايا الصحافة والنشر.
ومن هنا يحق لنا أن نتساءل عما إذا كان اعتقال الشاب المكراوي لا يشكل بالون اختبار لقياس اتجاهات الريح، وأنه تحول في السياسة الجنائية مدروس بدقة ومخطط له من أجل جس نبض الشارع، والتلويح بإمكانية اللجوء إلى اعتقال الناس بمناسبة التعبير عن آرائهم وفضحهم للفساد عبر وسائل الاتصال الاجتماعي التي أصبحت متاحة للعموم وبأبسط الوسائل، والتي أصبحت تتقوى يوما عن يوم وتؤسس لحركات اجتماعية بديلة استطاعت أن تفرض على الحكومة ومؤسساتها التراجع عن مجموعة من القرارات اللاشعبية تحت ضغط من الشارع، مثل إعادة مجانية الواتساب والفايبر التي منعها أحيزون عندما تضرر راتبه السنوي الذي يتجاوز مليارا و500 مليون، أو الرضوخ لمطالب الأساتذة المتدربين، أو الاعتذار عن زلات لسان الوزراء الكثيرة والمتعددة.
إن ما يدعو إلى الخوف على مصير الديمقراطية في ظل حكومة بنكيران، هو ضيق صدرها تجاه النقد، وعدم قبولها بالرأي الآخر، لدرجة أصبح معها مجرد نشر شريط فيديو لوضعية طريق جريمة تستوجب الاعتقال.
ففي الوقت الذي قال فيه ملك البلاد بأنه لا يرغب في متابعة من يمس بشخصه، لأنه يريد أن يحترمه شعبه لا أن يخاف منه، نجد أن أناسا لا قيمة لهم يحاولون أن يعطوا لأنفسهم حجما أكبر من حجمهم الحقيقي وأن يزرعوا الرعب في نفوس المواطنين، ويوظفون القضاء من أجل تحقيق مآربهم والتغطية على فضائحهم بدون حرج.
وإذا كان بنكيران قد قال بالأمس القريب إنه لم يعد يحارب الفساد وإن الفساد هو الذي أصبح يحاربه، فقد عشنا حتى صرنا نراه اليوم وقد تصالح مع الفساد وبات يتولى حمايته ورعايته، لذلك فمن حقنا أن نخاف على حريتنا وعلى حقنا في التعبير، ومن حقنا أن نعتبر أنفسنا جميعا من الآن مشاريع معتقلين مثل الشاب عبد الرحمان المكراوي.