محسن الأكرمين
من ترويع الإحساس بالغربة والضياع، حين أدرك مناد العز أنه أتلف روابط ذكرياته بين حوافر خيول قبيلة آيت أوسمان البرق. لم ينتبه لتسربها في الأرض السفلية بالتدفق العشوائي. من بقايا نقط الحذف المتقطعة، أنها أيقظ فيه دموع القهر في ضياع جل ذكرياته. اليوم استيقظ من فراش نومه فزعا، وحيدا بلا ماضي يستند إليه إلى الأمام. لم يقدر تذكر أي حدث باستثناء اسمه. تسمر مناد العز على يمين السرير المائل قعودا بلا حركة ولا مورد حياة. كانت عدة تساؤلات تستفز مخيلته الجاري فيها المحو المستمر، حتى أصبح لا يعلم: من أين أتى؟ ولما يعيش اليوم في زمن الضياع؟ أحس بدوخة مريرة تصيبه بالتزايد، تصبب العرق الناشف من جبينه بلا منشف ورقي، رأى نفسه وكأنه حديث الولادة يريد الصراخ المفزع وهو في وضعية الانتكاسة المؤلمة.
لم يفطن لتفاقم وضعته المقلقة إلا بدمعة وحيدة لاصقة تنزل. وجد نفسه في حالة هستيريا بكاء ونشوة الحمق، ثم بسمة صامتة لا تفاق مكانها. إنه اليوم ضيع مدونات سجل حياته، وبات كمن يبحث عن تاريخ ميلاده فقط بنقطة نهاية، والرجوع إلى سطر البداية. في منتهى التيه تحسس مناد العز جسمه بالتمام والترتيب لعله يجد فيه شللا أصابه. بعدها توقف تمهلا عند رؤية تلك المرآة التي تعكس صورته المتكاملة، توقف عندها حين وجد صورته تسائله، من أنت؟ وماذا تريد؟
من أسوأ الوقفات المميتة حين وجد مناد العز نفسه عاجزا عن توليد أية أسئلة، حين وضع أفكارك داخل خلاط كهربائي للحلحلة، ثم ارتج رجا من الصدمة بلا رحمة ولا عطف على ما علق من ذكرياته بهوامش التاريخ المنسي والعقل المتحجر والأحداث المتشائمة. نهض وقوفا وكأنه يريد الترافع عن ذاكرته في محاكم التفتيش وإثبات أحقية الذات. خطا بضع خطوات بلا موجه، ومن سوء المسار أنها كانت منغلقة في دوائر محدودة وقصيرة. لحظتها قرر الرجوع إلى تصفح صور صفحات من ذاكرته المتبقية حتى ولو باللونين الأبيض والأسود. قرر ركوب التحدي قدما بلا شراع عاصفة، ولما حتى معاكسة رياح السفن، فهو لا يريد التحرك من حافة السرير إلا من خلال ذاكرته الحاضرة.
كانت كل صفحة تحمل صورا مفخخة، فكل ما حصل عليه أنه من جيل ليس بالذهبي ولا بالفضي ولا الحديدي. كانت كل الصور مثل الحلم الذي لا يتلون بتاتا. حينذاك، لم تنتعش ذاكرته بالعودة إلى سلاسة الترتيب المنطقي، لكنه حتما لم يستسلم، بل عاود الجلوس ولم يبرح الغرفة خوفا من يصبح شبحا دائما، ومتصالحا مع شياطين الأرض العلوية.
علامات تعجب تركبه، فما أسوأ أن يصبح المرء بلا عنوان ! لم يعاود مناد العز النبش بالمرة فيما تبقى من رفات ذكرياته حتى ولو بالتدوير الممل، لم يعاود ممارسة إرهاق عقله الضيق وتحميله بأسماء من شجرة الأنساب، والوقوف بها عند عتبة نهاية النسب الشريف. لحظتها وبالوعي الشقي، رأى مناد العز أن صدمات الحياة المميتة قد تعيد له ذاكرة التوازن. توقف عن الحركة الكلية للحياة، وبات يفتش عن صدمة مدوية طوحت حياته تشتتا لعله يعود واقفا. من سوء عمل ذاكرة مناد العز أنها انتقلت سيرا إلى سرعة الطريق السيار، رغبة منها في مناولته الصدمة القاهرة. إنها الذاكرة الذكية التي باتت تحفز الخلايا الميتة بالتوليد، وترتب ملفات الصدمات القاتلة بحثا عن الأشد درجة، كانت تريد تفعيل الوخز المؤلم، والعودة بمناد العز إلى سجل حياة التذكر.
كنست ممحاة الذاكرة تلك العوالق الثانوية العالقة بجروح مناد العز الهامشية، وأبقت على كل الأحداث التي خلفت جرحا غائرا. حينها علم أن ذاكرته كانت توضب زمن الأحداث بحذف الملفات المعيقة، وأنه قد أفزعها باستيقاظه المبكر بلا منبه في عودته إلى قبيلة آيت أمياس الفهد. من لطف ذاكرته أنها لم ترهقه بسرد كل الملفات الكبيرة حجما، من وفائها أنها جمعت بين الأثر المفرح والألم المحزن.
حين نطق اسمه بحروفه التامة مناد العز، لعن الشيطان يسارا ورماه ببعض من الريق الجاف العالق بحلق الحياة الحانق. حين نظر إلى شيطان الصبح تبسم مناد العز طويلا وأراد مصالحته بعقد الصلح المستديم بلا غالب ولا مغلوب، لكنه أخيرا قرر تركه بالإبتعاد، وتعود منه ثلاثا، وانصرفت نحو إتمام الكشف عن الحقيقة الضائعة في مقتل أبيه.
(فصل من رواية : عندما يعود الرجال).