الزهرة إبراهيم - مكناس / جديد أنفو
الجموح الثالث :
ِإذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً
حمى المجتمع المدني بالمغرب العميق
قبل أن يُفهم هذا الخطاب خطأ، أؤكد منذ البداية أن المجتمع المدني عبر التاريخ لعب أدوارا نافست، في كثير من الأحيان، دور الأنظمة والحكومات في ضمان الاستقرار والتوازنات الاجتماعية والاقتصادية، وحتى السياسية في حياة الأفراد والجماعات، وبالتالي، في دعم ثبات المجتمع واتجاهه صوب التقدم والتماسك والنماء.
إلا أن مفهوم المجتمع المدني - الذي قفز إلى واجهة المشهد الحضاري، منذ عقود، وعرف انتعاشا له واتساعا في البلدان غير المصنفة، مع شيوع فلسفة حقوق الإنسان والأقليات- لم يكن، في معظم الحالات، وفيا للمبدأ الذي وُضع له في الأصل.
وكما هو الحال دائما في المجتمعات التي تنقل كل شيء عن الغرب، وتستهلكه استهلاكا مسرفا ومبتذلا حتى، بالرغم من أن ثوابتها الحضارية تغتني بمبادئ التضامن والتعايش والتآزر، فإن حمى التهافت على تأسيس جمعيات بأسماء براقة، وشعارات كبيرة، أصبح ديدن الناس ذكورا وإناثا، شيبا، وكهولا، وشبابا، في الحواضر والبوادي على حد سواء. والظاهر أن يافطة التنمية هي القاسم المشترك، في الغالب، بين هذه الجمعيات.
ليس هذا هو مكمن الخلل، إنما العثرات في دوافع تأسيس الجمعيات وطرق اشتغالها هو ما يستوجب المتابعة والمساءلة. فما تكاد تؤسَّس الواحدة وتدِبَّ بعض مشاكل بين أعضائها، حتى يسارع طرفا أو آخر في تقديم استقالته والانشقاق عن تنظيمه، ثم الشروع في الإشهار لتأسيس جمعية "رَبِيبَةٍ" أو "ضُرَّةٍ"، ليست، في حقيقة الأمر، منافِسَة تهدف إلى الرفع من مستوى الفعالية وإنتاج الأهداف المتوخاة، ولكنها كيان قائم على العداء، والبحث عن المقالب والمكائد و الـ "إنَّا عَكَسْنا"، والتربص بالجمعيات التي لا تتقاسم نفس التوجه، أو التي تمتلك إمكانات للتميز والعطاء الحقيقي للساكنة، لكن هذا النوع من الجمعيات الجادة والنزيهة ، للأسف، نادرة جدا جدا في مغرب المجتمع المدني!
يحق في هذا التناول أن أقدم نموذجا حيا على ما أقول. في فجيج، على سبيل العد، لا الحصر، يتشدق القائلون من أهل المدينة بوجود مائة وأربعة عشرة جمعية (114) موزعة بين اتجاهات شتى وغايات لا تختلف عما تتبناه جمعيات السويد وكندا واليابان... حتى ليخال المرء أنه داخل منظومة مثالية لا تفرط في شيء من مقدرات البلاد والعباد: الفلاحة، والصناعة التقليدية، واقتصاد المرأة، وجمعيات الطفل، وذوي الحاجات الخاصة، والبدو، ومشاريع الجالية المقيمة بالخارج، والمياه، والمغرب الأخضر، وترميم القصور، وصيانة التراث المادي واللامادي، وهلم جرا من الكلام الكبير الفضفاض... لا بأس، كل هذا يمكن الترحيب به والتفاؤل بتطلعاته، لكن الكارثة أن كل هذا الكلام الكبير مجرد كلام، في كلام، في كلام، وبقدر ما نتدرج من التصور النظري إلى واقع الممارسة والتطبيق، تتراجع الفعالية ويتلاشى الأثر، ولا يتحقق إلا النزر القليل من كل هذا في احسن الحالات، وفي أسوئها، تحقق جمعية ما نتائجة عكسية، مدمِّرة ومخرِّبة.
مشاريع تبدأ ولا تكتمل، أفكار يتم التخطيط لها ثم المصادقة عليها، ولكنها لا تُنَفَّذ بقدرة قادر ليس من مصلحته ولا مخططاته الانتخابية أن يبدو على الساحة من هو أكثر مصداقية منه. هذا هو حال جمعيات فجيج: كثرة مفسدة أو مشلولة، لا تستطيع فرض دورها على مسييري الشأن المحلي، لأنها هشة، وأحيانا لأنها تبيع نفسها رخيصة لمصالح شخصية ضيقة، بل إنها، تستجدي أموالا وهبات ومساعدات باسم محتاجي المغرب العميق، لتتبدد العطايا في كواليس لا يصل منها هؤلاء سوى الفُتَات في أحسن الحالات.
ومن العادات "الحميدة" التي بدأت بعض الجمعيات اتباعها، تنظيم فعاليات فنية أو رياضية، أو مهرجانات للمسرح لالتقاط التمويل، واقتسام "الوزيعة" بين "النشطاء"، علما بأن هؤلاء المنظمين لا يفقهون في المسرح شيئا، لكنهم يحفظون، عن ظهر قلب، كل تقنيات تحويل المال العام، والتزوير في الفواتير، والأمَرُّ من كل هذا أنه لا أثر يتحقق ويعود إيجابا على المواطن لا في المسرح، ولا في الثقافة، ولا في البيئة، ولا في الصحة، ولا في التنمية على اختلاف مجالاتها، ومطالبها.
أتساءل: هل يملك كل هؤلاء، الذين تمر على أيديهم مئات الملايين من المساعدات سنويا، نقدية وعينية، لإنعاش الواحة، الجرأة لتقديم كشوفات لصرف الميزانيات الآتية من فرنسا والسوق الأوربية المشتركة وجهات وطنية، من ألفها إلى يائها، والتأكد من أن كل جزء من السنتيم قد وصل إلى المواطن بشفافية ومصداقية؟
يجتمع، من يعتقدون أنفسهم مناضلين ومعارضين لمثل هاته السياسات في المقاهي الكئيبة، يستنزفون وقتهم في خطابات فارغة مفرغة، ينتقدون كل شيء: المجتمع المدني والإدارة المحلية والسلطة... لكنهم لا يستطيعون تقديم بدائل، ولا يقدرون على العمل التطوعي الشريف والجاد، مما يفسح المجال لمن يتشممون روائح الدرهم والأورو لتتبع ما يتصاعد منها واختطافه من بعد.
راقبت بعضا من هذه الجمعيات زمنا، اكتشفت فظاعات في الرؤى والأفكار والتوجهات والغايات. وصرت متأكدة من شيء واحد هو أن الطمع هو المحرك الأساس لهذا التيار من الجمعيات، طمع في المال، والسلطة، والوصول إلى مآرب شتى باسم الشعب، والساكنة، والفقراء، والمرأة، والطفل، والمعوقين، والبدو، والأميين، والمرضى، والعاطلين، وسنوات الرصاص، واللائحة تطول...
سألت أحدهم عن دوافع عضويته في إحدى الجمعيات الشبابية، قال: أبحث عن "كَاوْرِيَّة" عبر هذه الشبكة لتوصلني إلى أوربا، وبعد ذلك "مَا نَعْقَلْشْ عْلِيهُمْ وَلاَ عْلَى فِكِيكْ". لا أكتب تعليقا حول هذا الكلام، لأنه رخيص ومفضوح... فقط أحيلكم على أهداف مثل هذه الجمعية لتكتشفوا المفارقات الصارخة والنفاق في الأقوال وفي الأفعال، وما من أمة منافقة إلا كان مصيرها الضياع والبؤس والاضمحلال.
تعجبكم كثرتكم...
عددا لا مُنْجَزا إيجابيا يبني الواحة ويمنحها وجه الألفية الثالثة. هذا الوقت الذي يصرف عبثا في العداءات والصراعات واللهاث وراء المصالح الخاصة باسم خدمة المجتمع المدني، ومسلسلات النميمة والثرثرة الفارغة على شرفات المقاهي، أحرى أن يُصرف في الفعل. أقول لكل هؤلاء: يكون مفيدا تنظيف البساتين التي جف نخيلها وصار أعجازا خاوية من مناظر اليباب والموت هاته، وزرع الحقول المتخلى عنها بفسائل تمر وشتائل زيتون وتين كما كان السلف يصنع، من دون خطاب الجمعيات المليء بهرجة وعنفا ونفاقا وتدليسا، لأن مغرب الحداثة والديموقراطية وحقوق الإنسان يحتاج، أولا وأخيرا، إلى الفعل المسؤول والشريف، وحب هاته الأرض الطيبة، التي من الجرم أن يظل العديد ممن يُحسبون عليها، يتعاملون معها كـ "وْزِيعَة" وفرصة للسلب والنهب، كل بطريقته، وحيله، ومخططاته، وشعاراته... الرخيصة.