في الرابع والعشرين من مايو 2015 كان الإسبان على موعد مع حدث تاريخي بامتياز، حدث صنعه الشعب بتصويته في الانتخابات البلدية إضافة إلى الحكم الذاتي في بعض الأقاليم على حزب بوذيموس اليساري والذي فاز إلى جانب بلديات أخرى بأهم بلديتين وهما مدريد وبرشلونة ، مما يعني تراجعا غير مسبوق للحزب الشعبي وفقدانه للهيمنة التي ألفها رغم فوزه العام ، هذا التصويت العقابي الذي لجأ إليه الإسبان ضرب الثنائية الحزبية الكلاسيكية الإسبانية في مقتل ، فمنذ ثلاثة عقود والحزبين الشعبي والاشتراكي يتناوبان على السلطة في البلاد ، حتى كاد الشعب الإسباني يسلم بهذا الثنائي كشر لابد منه ، حزبان عملا معا على خلق تلاحم بين السلطة والمال والقضاء وهو ما جعل الشعب الإسباني يُحمِّلهما مسؤولية الأزمة التي جثمت على صدورهم لسنوات.
في الخامس عشر من ماي 2011، يقرر الشباب الإسباني وتأثرا بموجة الربيع العربي أن يرابط في ساحة الشمس "بويرتا ديل صول" في مدريد رافعا شعار "الشعب لا يحتاج أحزابا " للتعبير عن غضبه من سياسة التقشف التي تنهجها الحكومة ومن سياسة البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي ، مطالبا بالتقسيم العادل للثروات ، بين شباب الحراك الإسباني الذي أطلق عليه اسم حركة "غاضبون" كان هناك ثلة من طلبة وأساتذة العلوم السياسية الذين لم يكتفوا بحركة احتجاجية عابرة بدون أي انعكاسات على المشهد السياسي والاجتماعي الإسباني ، لقد فهموا جيدا أنه لابد من تحويل الحراك العفوي للشعب الإسباني إلى قوة سياسية ملهمة وحاضنة لآمال وإرادة المواطن الإسباني في التغيير.
من هذه الساحة الشهيرة كانت الانطلاقة ، وفي الرابع عشر من يناير 2014 ومن رحم الحركة الاحتجاجية "غاضبون" ولد حزب "بوذيموس "الإسباني الذي يعني "قادرون" ، هذا الحزب الذي ألهم العديد من الحركات الاحتجاجية في دول الجوار والعالم سبب القلق والرعب لنخب الحزبين التقليديين في إسبانيا ؛ لأنه أطلق دينامية سياسية حركت بركة السياسة الاسبانية ، وأسس لزمن سياسي جديد تماما في إسبانيا بتحويله للأغلبية الصامتة من الشعب إلى قوة فاعلة /قادرة على التغيير ؛ و بانقلابه على النمط التقليدي في التدبير المتعارف عليه بين الأحزاب الإسبانية ، والدليل على التجاوب الكبير مع هذا الحزب هو أنه وبعد عام من تأسيسيه اقتنع ببرنامجه الملايين من الإسبان ، وبعد 4 أشهر من ذلك تمكن من الحصول على خمسة مقاعد بالبرلمان الأوروبي وهو الآن بعد النجاح المستحق في الانتخابات البلدية يمشي بخطى ثابتة نحو تحقيق الفوز في الانتخابات التشريعية التي ستقام بعد 6 أشهر .
قادته اليساريين استلهموا خطابهم الثوري من حركية ومطالب الشارع الإسباني المتمثلة في العدالة الاجتماعية ومحاربة فساد الطغمة الحاكمة ، خطاب ركزت خطوطه العريضة على مناهضة العولمة النيوليبيرالية والرأسمالية بشكل عام ومعارضة سياسة التقشف التي فرضها البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي على إسبانيا عقب الأزمة العالمية التي ألقت بظلالها الثقيلة على البلاد ، وبذلك يكون الحزب قد نجح في إعادة الاعتبار لليسار ونفض الغبار عنه بعد أن كان نعت شخص ما بأنه يساري أو راديكالي يعتبر شتما وإهانة له .
بالرغم مما يمكن أن يتصوره المتتبع لمسار وخطاب هذا الحزب ؛ فإن ترسانته من الشعارات أخف بكثير مما تراكم لدى اليسار القديم من شعارات تخاطب العاطفة أكثر مما تخاطب العقل ،شعاراته تنسجم مع ممكنات الواقع ويؤكد قادته في كل تجمع خطابي على استرجاع الديموقراطية من نخب نظام 1978 ؛ خوان كارلوس مونديرو أحد مؤسسي وقادة الحزب يقول : هناك بعض الأشياء التي يجب أن تبقى كممتلكات مشتركة ، نحن واعون بأن تأميم الاقتصاد خطأ كبير ، لكن قطاعات حيوية مثل الماء والطاقة والقطاع المالي البنكي يجب أن تدار بطريقة عامة وتبقى تحت السيطرة ، زعيم العزب بابلو إكليسياس يؤكد دائما :"... ما تبقى من أوروبا هو طبقة السياسيين الراكعة للسلطات المالية الدولية والقوى العالمية كالولايات المتحدة ..لا نريد أي وجود عسكري أمريكي في أروبا...نريد أوروبا الحرية والعدالة الاجتماعية والتضامن ولهذا علينا مواجهة الفاشية الجديدة المتمثلة في الترويكا المدافعة عن البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي..." .
الجديد الذي حمله الحزب لم يكن على مستوى الخطاب المستجيب لآمال الشعب والإنصات لنبضه _التركيز على مطلب العدالة الاجتماعية _ وانقلابه على التوافقات الكبرى بين الحزبين الكلاسيكيين وعلى الشعارات اليسارية الفضفاضة فقط ، بل أتى بالجديد تماما على مستوى التنظيم الهيكلي للحزب ؛ يلاحظ المتتبع أن حزب بوذيموس قد أسس لمنهج مختلف خارج النسق الحزبي المألوف والمعتمد في عضويته على المناضل المنضبط لخط الحزب وخطابه ، بوذيموس قطع مع البيروقراطية الحزبية ولا يتوفر على الهياكل التنظيمية المعهودة ولا يمتلك مقرا رئيسيا ، لهذا نجده يلجأ إلى الساحات العامة لعقد اجتماعاته وتقديم مقترحاته التي تخضع لزاما لمناقشة كل قواعد الحزب من المواطنين المبدعين في البناء الحزبي ، معتمدا على مواقع التواصل الاجتماعي _فيسبوك وتويتر التي يشتغل فيها شباب الحزب كخلايا نحل _ وعلى الجرائد الإلكترونية للتواصل مع الشعب والتعريف ببرنامجه.. أبيدرو أحد مؤسسي الحزب يقول : "المنظمة أفقية تماما ومفتوحة لكل المشاركين ..." ، تعتبر هذه الديموقراطية الداخلية للحزب من بين المميزات التي جعلته يعيد السياسة إلى المواطن ويجذب قاعدة شعبية مهمة تبحث عن إطار سياسي قريب من همومها ويستوعب مقترحاتها وآرائها ، إضافة إلى استقطابه للعديد من الأطر الحزبية اليسارية التي يئست من الخط العمودي لأحزابها وخطاب الرضى وتنزيه الذات السائد لدى قادتها.
هذا التوجه الجديد نحو يسار اجتماعي/واقعي في إسبانيا لمواجهة أسئلة الديموقراطية والاقتصاد والصحة والتعليم التي تؤرق المواطن الإسباني هو ما جعل الحزب يحقق نتائج باهرة في زمن قياسي ، يسار شاب قطع مع سياسة الشيوخ الذين أسسوا لعهد الديموقراطية في إسبانيا سنة 1975 بعد عودتهم من فرنسا، مؤسسا بذلك ليسار القرن الواحد والعشرين والقادر على تحويل لحظات الأزمة وتداعياتها إلى حوافز لصناعة بدائل بعيدا عن كل الشعارات التي رددها اليسار المدجن .
إن تجرأنا وقمنا بمقارنة بسيطة بين الحراك الإسباني ومآلاته وبين الحراك الفبرايري في المغرب فسنكون غير منصفين بالمرة ، فلا البيئة ولا المناخ السياسي والاجتماعي الذي ظهر فيه الحراكان يمكن من تحديد وجه الشبه بينهما ، فإن كان الشاب الإسباني خرج للتظاهر ضد سياسة التقشف والمطالبة بالعدالة الاجتماعية والتقسيم العادل للثروات في ظل مناخ ديموقراطي مشبع بالحرية والذي وفر له البيئة المناسبة للانتقال من حركة "غاضبون" العفوية إلى تأسيس كيان سياسي بديل "بوذيموس" يستوعب طموحاته ومقترحاته ، فإن الشباب المغربي خرج مطالبا بالديموقراطية والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية وإسقاط الفساد والاستبداد الجاثم على صدر هذا الشعب ...
الفرق واضح إذن ، الحراك المغربي لم ينجح في إسقاط الفساد والاستبداد بالمغرب وهو ما كبح رغبة شبابه الواعد في تأسيس تنظيم سياسي يحاكي تنظيم بوذيموس يؤطر ويحضن طموحاته ويستوعب آماله الكبيرة ، فالنظام وكل لواحقه الحزبية والنقابية والإعلامية كان أقوى وأذكى وأسرع إلى "المبادرة" من الجميع ، حتى اليسار الذي تجاوب مع حركية الشارع المغربي في بدايته أعلن عدم إمكانية تحقق أكثر مما هو متاح حاليا وعاد إلى جحره للتفرغ لحروبه الداخلية ولسياسته العمودية المعهودة التي يرفضها شباب الحراك والذي عبر بنزوله إلى الشارع أنه لا يقاطع السياسة والشأن العام المغربي بقدر ما يقاطع سياسة رديئة مصنفة جيدة على سلم مصالح النظام وحُماته.
من هذه المقارنة المجحفة يمكننا أن نفهم لماذا بدأ الشعب الإسباني في جني ثمار حراكه وفشل التغيير أو تأجل في المغرب : الأجواء الديموقراطية التي تسمح بتشكل تنظيم سياسي قادر على طرح بدائل واقتراحات منعدمة تماما ، وبالتالي يبقى هذا الهدف معلقا بين أحلام الشباب في تغيير جذري وإصرار النظام على وأد هذا الحلم حفاظا على "أمنه واستقراره" .
رغم ذلك ؛ فإن حركية التاريخ لا يمكن أن تخطئ أبدا ، فإن كانت الأسباب التي أخرجت الشباب عن صمته وجعلته يدشن ربيعه مازالت قائمة إن لم نقل استفحلت ؛ فإن الحراك المغربي وإن خفت وهجه وفتر حماس شبابه فقد يتجدد في أي لحظة وهو باق ما بقي الفساد والاستبداد في هذه البلاد .