موضوعيا؛ وبعيدا عن الحسابات السياسية وعن أعطاب التعليم في المغرب التي هي بنيوية وسياسية قبل كل شيء؛ في كل دول العالم يتم فصل التكوين عن التوظيف؛ إذ يحصل المتدرب من مركز التكوين بعد اجتياز امتحان التخرج على شهادة مزاولة مهنة التدريس وعلى عاتقه تقع مهمة إيجاد عمل في القطاع العمومي أو في الخاص؛ بحسب كفاءته...هذا ما تنص عليه القوانين المنظمة لمعاهد التكوين في دول أوروبا وأمريكا (كندا وفرنسا مثلا) وحتى إفريقيا (تونس وموريتانيا مثلا)، والمغرب ربما هو البلد الوحيد في العالم الذي تخول فيه شهادة التخرج من مراكز التكوين ممارسة التدريس مباشرة في المدرسة العمومية ..
هذا هو المبرر _بالإضافة إلى مبرر العلم بالمرسومين قبل اجتياز مباراة الولوج إلى مراكز التكوين والذي يعتبر بمثابة قبول ضمني بهما _ الذي يسوقه المسؤولون الحكوميون ومن يواليهم لتبرير المرسومين الذين يتظاهر الأساتذة المتدربون لإسقاطهما، والأمر من الناحية النظرية يبدو في خدمة جودة التعليم بالمغرب، لأن عدم ضمان وظيفة مباشرة بعد امتحان التخرج يجعل المتدرب يلتزم أكثر ويبذل جهدا أكبر في المركز.
هذه المعطيات تبدو إن عزلناها عن خلفيات قرار الحكومة بفصل التكوين عن التوظيف وعن حالة المدرسة العمومية بالمغرب التي وصلت إلى أسوء حالاتها، وإن جردناها كذلك عن المستوى المعيشي لأغلبية الشعب المغربي، إن فعلنا ذلك سيبدو للجميع وكأن الحكومة بالمرسومين لا تهدف إلا إلى إصلاح التعليم بتكوين أطر كفئة والقطع مع التوظيف المباشر ضمانا لمبدأ تكافؤ الفرص.
لكن دعونا نقرأ الواقع بشكل آخر ونضع قرار فصل التكوين عن التوظيف وسط السياق المغربي الذي جاء فيه؛ وهو السياق المرتبط أولا بالخصاص المهول في أطر القطاع العمومي وبحالة الفوضى والاستئساد التي يعيشها التعليم الخاص بالمغرب ثانيا وبالمستوى المعيشي لأغلبية الشعب ثالثا :
أولا : تقول الحكومة أنها بالمرسومين تهدف إلى تكوين أطر كفئة تساهم في جودة التعليم، وهو في الواقع مجرد كلام للتمويه عن الهدف الحقيقي من المرسومين؛ لأن أعطاب التعليم بالمغرب مرتبطة أولا بنقص وسوء البنية التحتية لهذا القطاع؛ وجهود الحكومة لتحسين وتعزيز هذه البنية تبقى ضعيفة جدا وتشوبها اختلالات كبيرة لا مجال لسردها هنا، ومرتبطة أيضا بنقص مهول في أطر التدريس، نقص أدى إلى اكتظاظ فصول الدراسة التي يفوق عدد التلاميذ في بعضها الخمسين ويصل إلى سبعين تلميذا في بعض المدن؛ ووصل مستوى خصاص الأساتذة في المغرب إلى أكثر من 20 ألف أستاذ في التعليم العمومي_ على أساس أن معدل التلاميذ في القسم هو 40 تلميذا_ ،فكيف إذن يستقيم أن تبرر الحكومة المرسومين بتجويد التعليم العمومي وهي بهما تسعى إلى تخفيض عدد الأطر التي تلج العمومي كل سنة لتضيفهم إلى الخصوصي ؟ ألسنتها على المنابر الإعلامية تقول لنا أن العبرة في أستاذ كفؤ وليس في البنية التحتية؛ ونحن نقول لها مرة اخرى أن هذا الكلام أجوف، لأن هذا الأستاذ إنسان أولا وأخيرا ومطلوب منه بذل مجهود وسط ظروف مناسبة وليس تحقيق معجزة من قلب العدم، فالأستاذ ليس ساحرا ولا يملك مصباح علاء الدين، وانتظار نتيجة مُرضية من أستاذ تَكَوَّنَ بشكل جيد ويشتغل وسط "خربة" ومع 50 تلميذا في القسم هو أشبه بانتظار فلاح لمحصول جيد من القمح وسط صحراء ممتدة.
ثانيا: الجميع على علم بحالة الفوضى التي يعيشها التعليم الخصوصي بالمغرب وموقف المستأسد الذي يقفه لوبي هذا القطاع حين يضغط على الدولة ويلوي ذراعها لينظم مؤسساته بما يتوافق مع هدفه الربحي المحض، ولهذا نجد أباطرته يضع كل واحد منهم ما يأتي على هواه من قوانين بلا أي حسيب ولا رقيب ولا يلتزم بدفتر التحملات؛ منهم من يدفع للأستاذ 2000 درهم وقد ينزل هذا المبلغ إلى 1300 درهم، يتقاضى الأستاذ هذا المبلغ التافه ويمكن لأصغر تلميذ أن يهينه أمام زملائه أو في مكتب المدير، ويستطيع هذا الأخير أن يشغله لأكثر من 8 ساعات في اليوم مع القيام بأعمال أخرى غير مهنة التدريس، وقد يمسي ويصبح مطرودا في ظل غياب قوانين شغل تنصفه ...هذه الظروف المادية والمِهَنِيَة المُهينة والحاطة بكرامة الأستاذ تجعل الأغلبية تقبل العمل في القطاع الخاص مكرهة لا بطلة مفضلة بؤس العمومي على جحيم الخاص الذي لا يتوجه إليه إلا من تقطعت به السبل بحيث يكون مستعدا للتنازل عن كرامته مقابل مبلغ تافه هو في أمس الحاجة إليه، فكيف تريد الحكومة ومن خلال المرسومين الزج بأساتذة اجتازوا مسارا طويلا من الدراسة والتكوين إلى العمل وسط قطاع غير مهيكل وخارج تماما عن مراقبتها...عليها أولا أن تُخرج هذا القطاع من وضعية "السيبة" التي يعرفها وتُخضعه لقوانين العمل التي تضمن كرامة الأستاذ، وتنتقل هي من وضعية الخاضع للوبي الخاص إلى وضعية المُؤطر له...آنذاك فقط يمكنها أن تفصل التكوين عن التوظيف، أما الآن وقد أطلقت يدهم للاستثمار في أعطاب المدرسة العمومية وحاجة الشباب إلى العمل حتى صرنا نرى عدد المدارس الخاصة بعدد محلات البقالة في المغرب، فهذا ما سيؤزم التعليم أكثر وسيدفع نحو مزيد من الاحتقان الشعبي ويهدد السلم الاجتماعي...
ثالثا: لمقاربة هذا الجانب يمكننا أن نطرح سؤالا بسيطا يخص عدد المغاربة الذين تسمح لهم ظروفهم المادية ليدفعوا مقابل تعليم أبنائهم؟ عددهم قليل جدا وإن كانت آلاف الأسر تضع أبناءها في الخاص، والأغلبية؛ حين يذهبون بهم إلى المدرسة العمومية ويجدون الأقسام قد وصلت 50 تلميذا أو نقصا في أطر التدريس يضطرون إلى تغيير الوجهة إلى الخاص، وحين يدس الأب يده في جيبه على رأس كل شهر ليدفع أقساط أبنائه ويجد حسابه فارغا يقصد البنوك للاقتراض، وهذا يعني فيما يعنيه أن الوضع المادي للمغاربة يزداد تأزما ووضع القطاع البنكي في المغرب يزداد انتعاشا، فكيف تطلب الحكومة ومن خلال مرسوميها من المغاربة أن يدفعوا من لحمهم وكرامتهم ثمن تعليم أبنائهم في الوقت الذي يدفعون فيه ضرائبهم ..لسان حال الحكومة وبالمرسومين يقول لهم: من يشتكي من اكتظاظ المدرسة العمومية ونقص الأطر ما عليه إلا أن يتوجه للخاص حيث 20 أو ثلاثون تلميذا في الفصل _حسب عدد نجوم المدرسة الخاصة_ وحيث الأستاذ تلقى تكوينا جيدا وفرته الدولة من أموال دافعي الضرائب ...وكفى الله المغاربة شر النضال من أجل ضمان تعليم عمومي جيد لجميع فئات الشعب.
كان هذا الرد فقط لدحض ادعاء الحكومة بسعيها لتجويد التعليم بإشراك جميع الشركاء وعلى رأسهم الخواص، وتماشيا مع مسلمة التعليم الخاص التي قبل بها المغاربة وكأنها حتمية تاريخية وجب تدبير العيش معها ...لكن الدول التي تحترم نفسها وترى في التعليم العمومي قاطرة الأمة للازدهار فلا وجود أصلا لتعليم خاص يكرس الميز ويعمق الفوارق الطبقية بين فئات الشعب الواحد قبل المرحلة الجامعية ...من الابتدائي إلى الباكلوريا هناك تعليم عمومي فقط ولا حديث عن قطاع خاص يتم استدعاؤه لتدبير مشاكل تعليم الشعب ...لست أتحدث هنا عن بلدان تحللت فيها الدولة كمصر ولبنان أو دول الخليج الغارقة في المظاهر ..أتحدث عن دول حقيقية قائمة بالمهام التي وجدت من أجلها الدولة في الأصل .
يتبين إذن من السياق الذي نزل فيه المرسومين؛ أن حزمة المبررات التي حشدتها الحكومة لإقناع الشعب بالهدف منهما لم تكن سوى تمويها وتغطية عن الخلفية الحقيقية التي كانت وراءهما، فلم يكن هم المدرسة العمومية حاضرا لحظة صياغتهما؛ الذي كان حاضرا آنذاك وبقوة هو عزم الدولة على إسقاط عبئ تدبير التعليم العمومي عن كاهلها وتفويته للقطاع الخاص بطريقة التدبير المفوض بغض النظر عن الشروط الكارثية لهذا التدبير، فلا أحد منهم يمكنه أن ينكر كم مرة صرح مسؤولونا الأشاوس بثقل التعليم على كاهل الحكومة بصفته قطاعا غير منتج يلتهم حصة مهمة من كتلة الأجور، ولهذا فقد آن الأوان لتطبيق توصيات صندوق النقد الدولي الذي يقف وراء أغلبية قرارات الحكومة التي تهدد تعليم المغاربة .