لم يعد هناك من داع لصناعة المزيد من أفلام الرعب؛ فما تطالعنا به الصحف والقنوات التلفزية من صور الجثث والدمار في سوريا يكفي ويزيد؛ وهي ليست صور تركيبية كما يدعي البعض؛ إنها جريمة كاملة الأركان ضد الإنسانية وسندفع جميعا ثمن سكوتنا عليها وفي الغد القريب، جريمة موثقة بالصوت والصورة، وهي شهادة وفاة لضمير الإنسانية مصادق عليها بدم بارد من لدن كبريات المؤسسات الدولية التي تملك زمام القرار السياسي والمالي في العالم، هي جرائم خطط لها داخل هذه المؤسسات وسخرت لها الأنظمة العربية المتواطئة من الماء إلى الماء وعدد من الجماعات الدموية التي نبتت كالفطر السام على أرصفة الشام.

القتل والدمار الذي يستمر في سوريا فاق كل التوقعات وفاق حتى مجازر إسرائيل في غزة، وما قتله النظام والجماعات المتطرفة في هذه الدول في السنين الأخيرة؛ تجاوز ما قتله الصهاينة في فلسطين منذ احتلالها، إنها حرب إبادة ضد الشعب السوري ليخلد نظام الأسد باسم والشرعية وهو الفاقد للمشروعية أو لتحقق الجماعات الدينية حلم الخلافة.

ومناظر الأشلاء هذه ، وبرك الدم هذه، ينبري تياران يقفان على طرفي نقيض للاصطفاف إلى جانب هذا الطرف أو ذاك، فبين من يناصر نظام بشار باعتباره حائزا على الشرعية وممانعا مدافعا عن وحدة وقوة سوريا، وبين من يصطف بجانب المعارضة السورية التي تتكأ على حلف أمريكا و السعودية؛ كلاهما يخيرنا بين “أرحم” القتلة… قلت بينهما ، يحترق المئات من الشعب السوري يوميا، وإن كان أحد التيارين يستنكر هذه المجازر من حين لآخر فإنه يفعل ليدين الطرف الآخر ويقيم الحجة عليه وليس حبا ولا خوفا على الشعب الذي يُباد على مرأى ومسمع من العالم.

التيار الأول المدافع المنافح عن نظام الأسد باعتباره ممانعا لأمريكا وللصهيونية يتمسك بوهم كبير يراه حقيقة مطلقة وهو أن لا بديل عن نظام بشار الذي لا يقوم بشيء أكثر من الدفاع عن سوريا ضد الطامعين المتكالبين عليها، في خضم دفاعهم هذا تناسوا بأنه نظام استبدادي وبأنه لم تحمله أصوات الشعب إلى الكرسي بل قرار والده بتوريث الجمهورية السورية لابنه كما تورث الضيعة، تناسوا بأن الممانعة التي يتشدقون بها ليست سوى وهم آخر يشبه وهم القومية العربية التي سوق لها والده لاستدراج الشعب إلى القبول بنظام البعث والدفاع عنه، تناسوا بأن الأسد كان يعادي الكيان الصهيوني جهرا وينام معه سرا؛ بدليل الجولان المحتل منذ أربعين عاما واحتفاظ النظام بحق الرد طوال هذه السنين… فعن أي ممانعة وعن أي شرعية يتحدثون ؟

في خضم دفاعهم هذا تناسوا أيضا بأن الشعب السوري في أول يوم خرج فيه إلى الشارع _يوم 15 مارس من سنة 2011_ خرج مطالبا بالحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية التي افتقدها وهو يرزح تحت نظام جمهوري وراثي، في ذلك اليوم ولمدة 6 أشهر ويزيد لم تكن هناك جماعات إرهابية في سوريا، كان هناك شعب أعزل في مواجهة نظام قصف المتظاهرين بالرصاص الحي ونكل بالشباب الثائر وقتل منهم الآلاف، وبأن الجماعات الإرهابية والقوى العالمية لم تتدخل في سوريا إلا بعد أن وفر لها بشار كل الظروف المناسبة لهذه المهمة.

أما التيار المدافع عن ائتلاف المعارضة السورية فبدوره يتناسى أن بعض قيادتها باعت الشعب السوري لكل من له مصلحة في إعادة رسم خارطة المنطقة والتخلص من نظام الأسد الذي أصبح ورقة محروقة وجب تعويضها، قيادة أفرغت هذا الدور من أي معنى يوم قبلت تمويل وتدخل دول كالسعودية وأمريكا “وسيطا” لإيجاد حل، قبلت على نفسها أن تكون يد هذه القوى لتحقيق أطماعها في المنطقة مقابل وعد بالسلطة بعد سقوط نظام الأسد؛ ولم يتبقى منها في سوريا غير ثوار أحرار بصدور عارية أجبرهم النظام على حمل السلاح للدفاع عن النفس
بين الطرفين المتصارعين على السلطة ومن يناصرهما يحترق شعب بأكمله، يقامرون بدم شعب كان كل ذنبه أنه سعى للحرية والكرامة بوسائل سلمية فجعلوه يدفع ثمن مسعاه، كفروا بالإنسان وبحقه في الحياة والكرامة وانتصروا للإيديولوجية والمصالح المقيتة، الأسد الجبان جعل من دم أطفال سوريا إكسيرا للبقاء في السلطة؛ والجماعات الإرهابية جعلت من جثثهم حائطا للوصول إلى الجنة والحور العين، شردوا الملايين عبر العالم وجعلوا منهم وجبة للأسماك وتكالبوا على الباقي في حفل شواء جماعي.

ما تبقى من الشعب السوري محاصر بين جنكيز خان ونيرون داخل سوريا والعرب من المحيط إلى الخليج يتخندق بعضهم مع هذا السفاح والبعض الآخر مع ذاك، وقد ينقرض هذا الشعب وهم في خنادقهم يناقشون من له أحقية السلطة في سوريا، ويبررون بمنتهى الصفاقة لهذا وذاك بدون أدنى شعور بوخز الضمير؛ آخر همهم في أقذر حرب عرفها التاريخ الحديث هو الإنسان؛ فلا بأس أن يقدم قربانا لمصلحة أي طرف بذريعة أن للحرب خسائر لابد منها.

هي حرب إبادة يقودها أمراء الحرب في المنطقة ومن يقف وراءهم؛ ويستفيد منها من يستفيد في إطار مصائب قوم عند قوم فوائدُ؛ ولا أحد يمكنه وبعد 5 سنوات من الحرب أن ينكر وجود مؤامرة واضحة ضد سوريا؛ مؤامرة يعرف الجميع من غزل خيوطها، ركبت مطالب وأحلام الشعب السوري للوصول إلى أهدافها، وأول من وفر لها أسباب النجاح هو نظام الأسد نفسه بتعنته وإصراره على إذلال الشعب، فلو كان اختار مصلحة الوطن والمواطن السوري عند بداية الاحتجاجات لقطع عليهم الطريق بالاستجابة لمطالب الديموقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية، لكنه تعجرف واختار الانتصار لنظامه الفاشي فعبد لها طريق الاختراق.

وإن كانت كل الأطراف التي لها يد في هذه المجازر تذرف دموع التماسيح وتنعي ضحايا هذه الحرب بخبث الجبناء فإن الأنظمة العربية “الناجية” من “طاعون” الربيع العربي بشكل أو بآخر نزلت عليها مشاهد الرعب الآتية من سوريا بردا وسلاما؛ فهي الفرصة الأنسب لتمرر رسالة هامة لشعوبها تقول فيها: تأملوا حال من يتهور ويطالب بالديموقراطية والعدالة الاجتماعية…تأملوا واحمدوا الله على نعمة الاستقرار الذي ترفلون فيه بفضلنا ونعمتنا عليكم …احمدوا الله على ما في أيديكم من فتات ولا تنظروا للأعلى فقد تنكسر رقبتكم…أنتم شعوب غير مؤهلة للحرية ولا أهل للكرامة …جماعة من الجهلة والرعاع تحتكمون للعاطفة ولا تستحقون غير الاستبداد ليقوم اعوجاجكم؛ وهي رسالة واضحة وجهها الزعماء بشكل مباشر في خطاباتهم وعبر أبواقهم الإعلامية والثقافية.

هذه الانظمة الاستبدادية وبعد أن التفت على مطالب شعوبها في بداية الربيع العربي لم تجد من فرصة أنسب من هذه لتثبت لشعوبها “رجاحة” اختيارها؛ ولتخيرها في نفس الوقت بين مطلب الحرية المقرون بالجثث والدمار وبين الاستبداد الذي يضمن البقاء والاستقرار؛ بين النارين على الشعوب أن تختار بين السيء والأسوأ .
فهل ستبتلع هذه الشعوب الطعم وتصدق متلازمة الاستبداد والاستقرار أم ستستفيق وتسعى للانعتاق والكرامة في ظل الاستقرار؟؟

الأمر رهين بمفكرينا ومثقفينا ومدى احترامهم لدورهم التاريخي في التوعية والتنوير؛ على عاتقهم يقع عبئ رفع هذا اللبس الذي تروج له الانظمة الاستبدادية عبر أذرعها الإعلامية وبعض مثقفي السلطة؛ وحدهم القادرون على إقناع الشعوب أن خيار الحرية والديموقراطية مع الأمن والاستقرار هو الهدف والممكن؛ فإن هم أخلفوا موعدهم مع التاريخ ستبقى أرزاق وأعناق هذه الشعوب تحت أقدام أنظمتها الاستبدادية الفاسدة.