هناك حالة غريبة من التربص والترقب داخل دهاليز الأحزاب المشكلة للتحالف الحكومي، وسبب ذلك هو التعديل الحكومي المرتقب.
ولذلك أصبح وزراء كثيرون يتحدثون عن إفقارهم بسبب المنصب الوزاري، حتى إن وزير التشغيل عاد إلى صباه لكي يحكي كيف كان يسرح الماعز في الريف، تماما مثلما صنعت وزيرة فرنسية من أصل مغربي، هي نجاة بلقاسم، قالت لجريدة أمريكية إنها كانت تسرح الماعز في الريف في طفولتها قبل أن تهاجر مع والديها إلى فرنسا.
ثري آخر رأى أن هناك من يسعى إلى إفقاره بعدما كادت المحكمة تحجز على أسهم شركته في البورصة، وهو الملياردير الشعبي، سبق له أن حكى للصحافة كيف بدأ فقيرا يرعى الماعز في أحراش الصويرة، قبل أن تقبل عليه الدنيا وتحكم عليه الأقدار أن يركض فيها ركض الوحوش.
فهل هناك علاقة سحرية بين «السرحة» وبين الثراء والسلطة يا ترى؟
المهم أن أكثر من وزير يضع يده على قلبه بانتظار الحسم في اللائحة النهاية للوزراء الذين سيضعون حقائبهم ويغادرون، نحو وزارة أخرى أو نحو بيوتهم.
وإلى جانب هؤلاء هناك الذين يقفون في «الموقف السياسي» بانتظار حصولهم على نصيبهم من الكعكة الحكومية.
و«الموقف» في المغرب كلمة تعني شيئين اثنين: أولا «الموقف» كفكرة يؤمن بها الإنسان ولا يقبل أن يغير «كبوطه» بسببها، ولا أن يغير البندقية من كتف إلى كتف عند أول امتحان. ثم هناك ثانيا «الموقف»، ذلك المكان الذي يأتي إليه كل من يقف على باب الله بانتظار من يشحنه في سيارته أو شاحنته ليشغله في الحقل أو البناء أو ما شابه.
والواقع أننا في المغرب لا نلمس فرقا كبيرا بين الموقفين، فمثلما لـ«المواقفية» موقفهم الذي يقصدونه كل صباح، فالسياسيون أيضا لهم «مواقفهم» التي يقفون فيها على باب الله بانتظار أن يأتي تعديل وزاري أو حملة انتخابية ويتم اختيارهم من بين الواقفين في الصف الطويل للراغبين في تذوق عسل الوزارة.
ولكل سياسي «موقفه» الثابت الذي يأتي إليه كل صباح بانتظار يوم السعد، ولكثرة ثبات بعضهم في مواقفهم أصبحوا معروفين عند «طاشرونات» الحكومة ومنعشيها العقاريين الذين يمسكون «شانطيات» التعديلات الوزارية وينزلون إلى الشارع السياسي ليتخيروا في الرؤوس.
ويبدو أنه بسبب أن السوق «ناشفة» هذه الأيام، فإن التعديل الحكومي مازال يتعثر في الطريق، وبانتظار أن يطلع السوق قليلا وتدخل سلعة جديدة إلى الموقف السياسي، فإنه لا يسع الراغبين في دخول السوق إلا أن يوسعوا «قشاباتهم» لكي يكون بمقدورهم تحمل الانتظار لمزيد من الوقت.
«الموقف» فيه وفيه، فيه ذوو العاهات السياسية المستديمة.
فيه العرض والطلب، وفيه «الشناقة» ولصوص «البزاطم» المتخصصون في سرقة الميزانيات.
و«الموقف» فيه الراسخون في المعارضة، الذين يرونها دائما معزة ويصرون على بقائها معزة ولو طارت. فيه الراسخون في الولاء والراضخون المرضي عنهم الذين لكثرة انحنائهم أصبح من الصعب عليهم أن يقفوا موقفا سليما دون أن يصابوا بآلام مبرحة في الظهر.
«الموقف» فيه أصحاب السعادة الذين يبدو أنهم سجلوا هذه السعادة بأسمائهم وأسماء زوجاتهم وأبنائهم وحرموا منها بقية أبناء الشعب.
«الموقف» فيه أبناء العائلات الكريمة التي تتوارث الوزارات أبا عن جد، والتي لا يستريح لها بال حتى تصحب معها أبناءها وعقيلاتها إلى قبة البرلمان إلى جانب الأزواج المحترمين.
«الموقف» ليس دائما مكانا تحت الشمس الحارقة يقف فيه الإنسان على باب الله بحثا عن فرصة عمل في حقل أو ورش.
«الموقف» يمكن أن يكون مقعدا مريحا يجلس فوقه أصحاب المواقف ويدورون معه أينما دار بهم، ويمكن أن يكون ديوانا وزاريا بالنسبة إلى أصحاب «المواقف» الصلبة التي لا تلين إلا بالسيارة «مولات العوينات» التي تحمل شارة الحكومة.
«الموقف»، خصوصا إذا كان صلبا، كان إلى عهد قريب يقود صاحبه إلى السجن، أما الآن فإذا لم يقد صاحبه إلى إحدى الوزارات فإنه يمكن أن ينتهي به مصفقا وراء مظاهرة أو بـ«كشكوشة» خارجة وراء أحد الميكروفونات المنتشرة هذه الأيام في كل مكان.
«الموقف» إذا لم تعرف كيف تقف فيه يمكن أن تقضي حياتك كلها بانتظار من يشتري منك مواقفك المصيرية، وفي آخر العمر عندما ترى أن كل رفاقك تخلوا عن مواقفهم و«ضربوا» أيديهم بعد أن غيروا المعطف وأصبحوا يسكنون في الفيلا في المنتجعات السياحية ولديهم سائق خاص، تجمع كل مواقفك في كتاب مذكرات وتبيعها بالجملة لإحدى دور النشر، كما فعل العروي مؤخرا بخواطره.
كثيرون أتوا إلى «الموقف» ودسوا رؤوسهم بين الرؤوس، منتظرين أن يأتي «قطاع الريوس» ويقطف رؤوسهم لكي يعلقها على باب الحكومة الموقرة.
لكن لسوء حظهم بقوا ثابتين على «الموقف» إلى أن طابوا من الوقوف و«خمجت» رؤوسهم وسقطت مثل تفاحة نيوتن.
فهؤلاء السياسيون المساكين لم يستفيدوا من الدرس الذي تقدمه الطبيعة لبني البشر، والذي حكمته تتجلى في أن الثمرة الناضجة هي أول ما يسقط من الشجرة. فهم لفرط نياتهم الحسنة لم يفهموا أن العمل الحكومي عندنا يتطلب قليلا من عدم النضج، أي بالعربية تاعرابت أن يكون «بنادم باقي خضر شوية»، لأن عمر العمل الحكومي طويل وفترة «الخموجية» تأتي من بعد وليس قبل الاستوزار.
ولعله لهذا السبب يقول المغاربة في وصف بعض الأثرياء إنهم «خمجو فلوس»، فـ«الخموجية» و«الخنوزية» عندنا مرتبطة بالمال، والمال بدوره يسميه المغاربة «وسخ الدنيا». وهكذا ففي المغرب، على رأي الساخر السنوسي بزيز، «شي خانز فلوس وشي غير خانز».
ويبقى أن أصحاب الموقف الذين ينتظرون كل صباح من يشحنهم إلى الحقول أو أوراش البناء في شاحنته، أنقى وأطهر بكثير من بعض السياسيين الذين يتوافدون هذه الأيام كل صباح على «الموقف» السياسي بانتظار من يشحنهم إلى دواوينهم الوزارية.
فهؤلاء على الأقل يصورون خبزهم من عرق جبينهم ويقطفون الثمار من الحقول ويبنون البيوت بعضلاتهم، وليسوا مثل بعض السياسيين الذين يقطفون ثمار غيرهم ويبنون مستقبلهم على ظهر الجماهير التي ظلوا يخدعونها بمواقف راسخة اتضح في الأخير أنها لم تكن سوى «مواقف» خادعة.