في مواقف كثيرة يستعصي على الإنسان بما هو إنسان حقا أن يبقى محايدا/متفرجا على الخراب وهو يزحف نحوه ونحو مستقبل أبنائه ، ويرى في حياده هذا مشاركة في هذا الخراب أو على الأقل قبولا ضمنيا به طالما هو لم يقل "لا" بمعناها الإيجابي والتي يجب أن تقال في الوقت المناسب لوقف هذا الزحف ، فأن يلقي كل منا بمهمة الجهر بهذه الكلمة على الآخر فذلك محض جبن واتكالية وإعلان للانهزام قبل الأوان ، وإيماني الشديد بهذا المبدأ واستهجاني لموقف المتفرج هو ما جعلني أدلو بدلوي في قضية الساعات الإضافية ودورها في الإجهاز على المدرسة العمومية وبالتالي على حق المواطن البسيط في تعليم مجاني وجيد .
ظاهرة الساعات الإضافية بمقابل مادي هي منكر تعليمي كامل الأركان لا يأتيه الأستاذ بمعزل عن شركاء العملية التعليمية برمتها ، يتواطؤ الجميع كل حسب مسؤوليته وموقعه وهدفه في ابتزاز التلميذ ومقايضته المعرفة مقابل المال في مدرسة عمومية :
1_الوزارة الوصية في شخص ممثليها في النيابات والاكاديميات وإدارات المؤسسات التعليمية ،هذه المؤسسات تتواطؤ بصمتها أو بمشاركتها أحيانا في هذه الجريمة للتغطية على النتائج الكارثية للسياسة التعليمية للدولة ، فبالنظر إلى الظواهر السلبية التي تعاني منها المدرسة العمومية وعلى رأسها ظاهرة الاكتظاظ والظروف السيئة التي يشتغل في كنفها المدرس في كل الأسلاك ، إضافة إلى المناهج التعليمية الرديئة المقدمة للتلميذ والتي تعتمد في غالبيتها على الحشو والإطناب ، فإن مردودية المدرسة العمومية المغربية تكون في الغالب ضعيفة جدا والمتجلية أساسا في نسبة النجاح الضعيفة وجودة المعرفة الهزيلة المقدمة للتلميذ إضافة إلى الهدر المدرسي الذي تتنامى نسبته عاما بعد آخر ، وللتغطية على هذه الأمراض – بدل معالجتها -التي تناوبت على إنتاجها الحكومات المتعاقبة منذ ثمانينيات القرن الماضي لم تجد هذه المؤسسات حرجا في القبول بالساعات الإضافية مقابل المال كحل سهل وملغوم
2_النقابات التي تبلقنت ولم تعد تقوى حتى على ترتيب بيتها الداخلي ، لقد تخلت عن دورها في الدفاع عن حقوق رجال ونساء التعليم لتحسين ظروفهم المادية ومناخ اشتغالهم وتركتهم وجها لوجه مع الوزارة الوصية في الوقت الذي انصرفت فيه إلى تصفية حسابات زعاماتها حول الزعامة والخلود في المنصب وانصرف الأستاذ(ة) إلى البحث عن أسهل الحلول وأخطرها وهو تقديم المعرفة والنقطة للتلميذ مقابل المال
3_أولياء أمور التلاميذ الذين ترسخت لديهم ثقافة الحلول الفردية والآنية ، فصار كل أب يبحث عن حل فردي لمشكلة ابنه بمعزل عن بقية الآباء ، حتى ولو اضطر إلى الإجهاز على قوت يومه ، يبقى الأهم بالنسبة له هو أن يعبر بابنه إلى "ضفة المستقبل" والتي هي في تصورذهنيته الضيقة ليست أكثر من مدرسة أو معهد عالي يدخله بمعدل كبير والذي يجب أن يحصل عليه بأي طريقة، لا أحد من الآباء الواعون بخطورة هذه الظاهرة استجمع شجاعته وقرر جمع أولياء الأمور حول كلمة "لا" لابتزاز التلميذ والأب ونعم للحق في التعليم الجيد والمجاني للجميع ، لا أحد أدرك بأن الحلول الجماعية والجذرية مردوديتها أفضل وتعالج جذر المعضلة ، استسهل الجميع طريق الحلول الفردية التي تبقى مجرد حلول آنية .
4_الأستاذ ؛ العنصر الأساس في هذه العملية/الهدم المنظم للمدرسة العمومية ..بنزوعاته الاستهلاكية التي فاقت أحيانا توفير ضروريات الحياة لتتعداها إلى الكماليات جعلت فئة مهمة تلجأ إلى هذا الحائط القصير :الاسترزاق من الساعات الإضافية التي تضيف إلى رصيده البنكي وتنتقص من إنسانيته ورسالته النبيلة إلى أدنى مستوى ...اسألوا أحدهم ، لم تتعاطى هذه الآفة ؟ وسيجيبك بأن أجره هزيل ولا يكفي للاستجابة لإكراهات الحياة التي تفوق طاقته ..فلنفترض جدلا أن الدولة ظلمتهم _وهذا أمر صحيح في أغلب الحالات_ ، هل يعني هذا أن يقوم الأستاذ باستخلاص حقه من الطرف الأضعف في هذه "السلسلة الغذائية" ؟؟ هل يعني ذلك أن نكرس سياسة الغاب يأكل فيها القوي الضعيف ؟؟ هل معنى ذلك أن من يملك المال يدفع مقابل الدرس والنقطة ومن لا يملك فليذهب إلى الجحيم ؟؟ هل يعني ذلك استعمال طعم النقطة الجيدة وابتزاز التلميذ ثم جره إلى فخ الساعات الإضافية ؟؟ أم أن العدل والحق والقانون يقول أن مجانية التعليم وجودته حق للجميع فقراء وأغنياء وعلى الأساتذة المتضررين من سياسة الدولة اللجوء إلى الهياكل التي تؤطرهم لاستخلاص حقوقهم ممن تطاول عليها ؟؟
وإن كانت الوزارة المعنية قد أعلنت الحرب على تجار الساعات الإضافية فإنها تبقى حربا كسولة ووهمية وتفتقر إلى إرادة سياسية حقيقة للخروج بالمدرسة العمومية من المأزق الخطير الذي آلت إليه ،إضافة إلى أنها تركت ثغرات كثيرة يمكن للأستاذ أن يستغلها بكل سهولة للتحايل على مذكرة الحرب هذه التي أهملت تماما مقاربة الأسباب التي تدفع بالأستاذ إلى الاسترزاق بهذه الطريقة المهينة له ولأسرة التعليم ، وبالنظر إلى أن ظاهرة الساعات الإضافية مرتبطة بعوامل كثيرة تمس العملية التعليمية أهمها ضمير الأستاذ(ة) ودرجة إحساسه بالمسؤولية الدقيقة الملقاة على عاتقه ، وكذلك درجة الاستعداد القبلي للمتعلم واقتناعه بأهمية التعليم في بناء شخصيته ومستقبله ، قلت بالنظر إلى كل هذا تبقى مقاربة الوزارة جد سطحية وبعيدة جدا عن تجفيف منبع الداء
إن الوعي العميق والجاد بخطورة هذه الآفة هو أول خطوة في طريق محاربتها ، علينا جميعا ، أساتذة وهيئات وأولياء أمور وتلاميذ أن نعي جيدا بأن استسهال الساعات الإضافية مقابل المال هو بمثابة رصاصة الرحمة التي نتفق جميعا على إطلاقها على التعليم العمومي الراقد أصلا في غرفة الإنعاش ، علينا أن ندرك جيدا أنه وإن كان بإمكاني أنا أو أنت أو هو أن نوفر مقابل هذه الساعات فإن الغالبية الساحقة لا تستطيع وستضطر إما إلى الاقتطاع من قوت يومها أو إلى البقاء على الهامش وتتكرس بذلك ظاهرة التمايز الطبقي في المجتمع ، يجب أن نفهم جيدا بأن ضمان مقعد لأبنائنا في معهد أو مدرسة عليا ثم تخرجه طبيبا أو مهندسا بما يمنحه هذا المنصب من ضمانات مادية ووجاهة اجتماعية لا يعني أبدا صناعة الانسان وضمان مستقبله وخدمة الوطن بقدر ما يعني صناعة كائن أناني ومادي مستعد دوما لدفع المال من أجل مصلحته أو البحث عنه بعيدا عن المبادئ والأخلاق والقانون ،والتلميذ الذي يدرس وسط هذه الأجواء الموبوءة هو مشروع رجل فاسد ومستبد في المستقبل ،والبَيِّن من هذا وذاك أن التساهل بل والتطبيع مع هذه الظاهرة المرضية يعني دفع المواطن إلى الانسحاب تماما من المدرسة العمومية في اتجاه التعليم الخاص وتقوية شوكةلوبياته التي بدأت في العقد الأخير تستقوي وتفرض شروطها على الدولة وعلى المواطن ، وتلكم آفة أخطر تزحف إلينا لو تعلمون .