لو كان رئيس الحكومة جادا في تحقيق العدالة الاجتماعية، مثلما ادعى في برنامجه الانتخابي، لكان أول قرار طبقه منذ وصوله إلى سدة الحكم، التي قال بالمناسبة إنه لا يمارس فيها الحكم، هو تطبيق الضريبة على الثروة مثلما صنع الرئيس الفرنسي الاشتراكي فرانسوا ميتران بمجرد وصوله إلى الحكم.
فإذا كان من حق الأغنياء أن يسمنوا ثرواتهم، فإنه من حق الدولة أن تأخذ ضريبة على هذا التسمين.
الرئيس الفرنسي لم يفرض فقط ضريبة على الثروة بل ضريبة على علامات الثراء الظاهرة، فإذا كان من حق الأثرياء أن يتبجحوا بثرواتهم وأن يلبسوا ساعات الماس والذهب، ويركبوا سيارات الفيراري ولومبرغيني، ويقيموا لأبنائهم الأعراس بمأكولات مجلوبة من الخارج، فإن من حق الدولة أن تردعهم بهذه الضريبة حفاظا على السلم الاجتماعي. فالحقد الطبقي هو أحد أكبر أعداء الاستقرار في أي بلد. وعندما يشاهد الفقراء كل هذا النعيم الذي يرفل فيه الأثرياء دون أن يكونوا قادرين على تلبية مطالب أبنائهم الأساسية، فإن منسوب الشر يرتفع ويكثر معه السطو وسائر الجرائم.
ولذلك أقر الرئيس الفرنسي الاشتراكي هذه الضريبة، لكي يدفع الأثرياء إلى إخفاء معالم ثرائهم حتى لا يستفزوا مشاعر الطبقات الفقيرة.
عندنا في المغرب أصبح استفزاز الأغنياء للفقراء رياضة وطنية، فكل من استطاع أن يتسلق السلم الاجتماعي ونجح في التسلل الطبقي، يفكر أول ما يفكر فيه في استعراض ممتلكاته على الناس، وهذا ما يسمى الغنى الفاحش. وهذا الفحش يجب أن يتوقف، والطريقة الوحيدة لإيقافه هو فرض الضريبة عليه. «وديك الساعة شوف واش باقي شي خانز فلوس غادي يقدر يتفطح على عباد الله».
لكن السيد بنكيران يستأسد فقط على الطبقة المتوسطة وطبقة الفقراء، أما الأغنياء فإنه أعطاهم منذ تسلمه السلطة، التي يتهرب من تحمل مسؤوليتها، شبرا من «التيساع».
وهناك حوار مهم وشيق وعميق في أحد فصول مسرحية «المارد الأحمر» لكاتبها «أنطوان رولت»، يدور بين «مازاغين»، كبير الوزراء في حكومة الملك الشاب لويس الرابع عشر، المشهور بلقب «الملك الشمس»، و«كولبير» الطامح لوضع يده على وزارة المالية، يشرح بوضوح جد معاصر أسباب استهداف بنكيران للطبقة الوسطى واتكاله على ضرائبها لكي يمول بها مشاريع التضامن مع الطبقات المسحوقة.
وفي ثنايا الحوار يشتكي «كولبير» من كونه لم يعد قادرا على دس يده في جيوب المواطنين، وأنه ينتظر من المسؤول عن التموين أن يشرح له كيف يمكن للدولة أن تستمر في الإنفاق في وقت تغرق فيه وسط الديون حتى الأذنين.
فقال له «مازاغين»:
- عندما يكون المرء مجرد مواطن، ولا يجد مالا يدفعه مقابل ديونه، فإن الوضع الطبيعي هو أن يذهب إلى السجن. لكن عندما يتعلق الأمر بالدولة فالأمر يختلف. إذ لا يمكننا أن نرمي الدولة في السجن. وهكذا تستمر الدولة في الاستدانة أكثر فأكثر. كل الدول تصنع ذلك.
ويبدو أن «كولبير» لم يفهم قصد رئيسه «مازاغين»، فقال متسائلا:
- ومع ذلك نحتاج إلى المال، فكيف يمكننا الحصول عليه إذا كنا قد فرضنا على الشعب جميع الضرائب الممكنة والمتخيلة؟
هنا أجاب «مازاغين»:
- الحل بسيط، نخلق ضرائب جديدة.
فانتفض «كولبير» وقال:
- لا يمكننا فرض ضرائب جديدة على الفقراء، فهم يرزحون تحت ضرائب كثيرة.
وكم كان مفاجئا بالنسبة لكولبير أن «مازاغين» اتفق معه في هذا الرأي. وقال له إن فرض المزيد من الضرائب على الفقراء أمر غير ممكن.
-الحل إذن هو فرض الضرائب على الأغنياء.
قال «كولبير» وهو يعتقد أنه أصاب الهدف. لكن «مازاغين» عالجه بجواب لم يكن ينتظره:
- ليس الأغنياء من يجب فرض المزيد من الضرائب عليهم، لأن فرض الضرائب على الأغنياء يجعلهم يتوقفون عن الإنفاق. فعندما ينفق مواطن غني فهو يضمن عيش مئات الفقراء.
وهنا أعطى «كولبير» حماره وطلب من «مازاغين» أن يشرح له كيف يمكن ملء صناديق الدولة الفارغة دون فرض ضرائب جديدة على الفقراء والأغنياء.
فقال «مازاغين»:
- هناك الكثير من الناس ليسوا فقراء وليسوا أغنياء يوجدون بين الاثنين. يتعلق الأمر بمواطنين فرنسيين يشتغلون ويحلمون بأن يصبحوا ذات يوم أغنياء ويخشون أن يتحولوا إلى فقراء. هؤلاء هم من يجب استهدافهم دائما بالمزيد من الضرائب. لأن مواطني هذه الطبقة الوسطى بقدر ما تأخذ منهم بقدر ما يضاعفون جهدهم في العمل لتعويض ما تأخذه الدولة منهم. إنهم الاحتياطي الذي لا ينفد.
إن ما قاله «مازاغين» للمسؤول عن التموين قبل أربعة قرون، في وقت كانت فيه الدولة الفرنسية تعيش إحدى أعمق أزماتها المالية، هو نفسه ما قاله رئيس الحكومة عندما قال أمام البرلمانيين إنه لم يفرض ضرائب على الأثرياء خوفا من توقيف عجلة الاقتصاد. ولذلك اختار المغاربة الذين لا يوجدون ضمن شريحة الفقراء مثلما لا يوجدون ضمن شريحة الأغنياء. أي أنه استهدف ما أسماه «مازاغين» الاحتياطي الذي لا ينفد.
ولذلك فهو يكاد يفتخر وهو يعترف بأنه هو شخصيا من قرر الزيادة في أثمان المحروقات. والباعث على الطمأنينة والثقة الكبيرة في النفس التي «يزف» بها رئيس الحكومة هذه «البشرى»، هو معرفته المسبقة بأن الطبقة المستهدفة بهذه الزيادة، بالإضافة إلى الضرائب الجديدة التي سيكتشفها مواطنو هذه الطبقة في القانون المالي العام المقبل، ستقبل بالأمر الواقع وستبتلع لسانها وتصبر.
حسب آخر تقرير لبنك «كريدي سويس»، فالمليارديرات المغاربة زادت نسبتهم خلال هذه السنة بحوالي 13 بالمائة. فقد كان عددهم حسب هذا البنك السويسري سنة 2011 مليارديرا واحدا، لكن الرقم قفز في سنة 2012 إلى 14 مليارديرا. مما يعني أن ثلاثة عشر مليارديرا مغربيا فتحوا حسابات بنكية في سويسرا وهربوا إليها أموالهم في عز «الاستثناء المغربي».
وفي الوقت الذي تراجع فيه عدد المليارديرات الإيطاليين والفرنسيين والألمان والسويديين والكنديين والإسبان، نكتشف أن المغاربة، حسب تقرير بنك «كريدي سويس»، ينافسون الأمريكيين واليابانيين والإماراتيين بنسبة زيادة مثيرة للدهشة.
إن هذا التقرير السويسري يطرح على جواد الحمري، مدير مكتب الصرف، سؤالا محرجا. وهو لماذا لم يتحركوا بمجرد نشره باتجاه إعادة الأموال المهربة إلى بنوك سويسرا نحو المغرب.
ما الذي يمنعه من مراسلة هذه البنوك السويسرية من أجل إمداده بأسماء المليارديرات المغاربة الذين يكنزون أموالهم لديها، متهربين من أداء الضرائب عنها لخزينة الدولة المغربية؟
الجواب نجده في الحوار الذي دار قبل أربعة قرون بين كبير الوزراء في حكومة الملك لويس الرابع عشر، والموظف الطامع في تسيير مالية المملكة الفرنسية. فالمليارديرات يجب إعطاؤهم أشبارا كثيرة من «التيساع». وإذا كانت هناك ضرائب جديدة يجب فرضها لملء أكياس الدولة الفارغة، فأمام الحكومة جيش من المغاربة الذين يخافون من الفقر أكثر مما يخافون من الطاعون، ويحلمون بالالتحاق بصفوف الأغنياء مثلما يحلم طفل بالحصول على ملابس العيد.
الخوف من الفقر والطمع في الاغتناء هو ما يدفع الكثير من سكان الطبقة الوسطى إلى اللجوء إلى كل الوسائل الكفيلة بتحقيق طموحهم وطرد هواجسهم، بما في ذلك الوسائل غير النظيفة، وهذا ما يفسر «تربع» المغرب على سلم الفساد والرشوة وباقي الآفات الاجتماعية التي ينتجها الطامعون في الثروة من أبناء هذه الطبقة المتوسطة. لهذا السبب لدينا طبقة وسطى كل هم بعض أبنائها هو الالتحاق بطبقة الأثرياء والركض أكثر ما يمكن بعيدا عن طبقة الفقراء.
رئيس الحكومة يعرف أن هذه الطبقة هي الضرع الطبيعي الذي يجب حلبه كما ينبغي. وبقدر ما تتعرض هذه الضرع للحلب، بقدر ما تدر المزيد، لأن المحرك المدر للحليب عندها هو الخوف من الفقر والطمع في الثروة.
والطماع لا يقضي عليه سوى الكذاب. والسياسيون بارعون في الكذب. أليست السياسة، كما قال «بول فاليري»، هي فن مشاغلة الناس عما يهمهم بالكذب عليهم؟ لكنه كذب أبيض ضروري لكي يبتلع الشعب قرص الأسبرين ليهدأ صداع رأسه ولو مؤقتا.