الزهرة إبراهيم - مكناس / جديد أنفو
الجموح العاشر: بمناسبة المهرجان الوطني الرابع للكسكس المغربي
الْمَقامَةُ الْكُسْكُسِيَّةُ
مهداة إلى روح بديع الزمان الهمذاني والحريري
حَدَّثَنَا إيزَمْ مِّيسْ نُغْرَمْ، قال:
جمعنا مجلس مع جماعة، بمكان يُقال له الـ "جّْمَاعَهْ"، نكن لهم في قلبنا الود والتقدير، ونحترم منهم الحكيم والغرير، ببيت عريق، تؤدي إليه كل طريق، يؤوي القريب جنب الصديق، لوجاهة أهله، وعراقة أصله. وعلمنا مما تناثر من أخبار، وما تكشف من أسرار، أن القوم نالوا مِنَّةً، وفازوا بنعمة، فَجَرَّتْ عليهم نقمة، حسدهم عليها غيرهم، وسعوا إلى نَقْضِهم، وتحويلها إلى حيِّهم، والتباهي بها أمام قومهم، لكن الأمر استتب لهم، بفضل أمر سديد، وعزم أكيد، لرد الاعتبار للعلماء، وتكريم الفقهاء، المعروفين لدى العجم قبل العرب، لما بلغوا بمعرفتهم من الأرب، وأحرزوا بها جم الرُّتب، لأنهم تحرزوا من البدع، وترفعوا عن وضيع المُتع، وجعلوا من العلم النافع مطلبا، ومن تفقيه الطلاب مأربا، ومن الدين المعتدل منْقِبا، فقرأوا وحرّروا، ودرسوا فأَكْثَرُوا، وفي المتون تبحَّروا، يشهد لهم التاريخ بماض علمي غزير، وصيت علاّمة أثير، وبنيه ذوي الذكر المنير، فثبُتَ لهم العطاء، وحصُل به العز والسناء. وصار سُنَّةً بها قَصْرُهُمْ، كل ربيع، يُضاء، فيأتي العقب من بعيد الأنحاء، الرجال منهم والنساء، فيفرحون باللقاء، لما فيه من صلة الأرحام، وتزاور بين الأخوال والأعمام، واستلهام عِبَر الأعلام، الذين سرت بذكرهم الركبان، وأشادت بعلومهم البلدان.
ولما اكتمل المجلس بناسه، واستهل الكلامَ مُبَرَّزُ جلسائه، واضعا في حسبانه كل خطط الردع، لعلمه بوجود جبهة منع، فاطمأن لما أصاخت الآذان السمع، وتوسمت النفع، فأدلى كل بدلوه، متوخيا بلوغ شأوه، وصواب رأيه، فتجاذبوا حول تدبير الأمر، وتراءى أنهم طوَّقوا العسر باليسر، لكن حدث ما لم يُنتظَر، فنزلت ردود كوابل المطر، الذي انحبس طويلا ثم انهمر، فلم يرُق بعضهم اختلاف النظر، وجديد الفِكَر، فلا تعدم الجماعة من تحرروا من سلطة النماذج، ونادوا بشفافية البرامج، فلم يروقوا رأس القوم، واغتاظ منهم واغتم، وقال ليتني لم أتول هكذا أمرا أدهم، تسييره أهون من صلي جهنم. فسعى إلى تطويقهم في مهمة، متحاشيا بذلك انشطار اللُّحْمَة، وشماتة الأمة، معتقدا أن ذلك يُرضي غرورهم، ويبعث سرورهم، ويدرأ شرورهم، فيُسكِتَ أفواههم، ويُوائم أهواءهم، فقبلوا على مضض، وتوعَّدوا بمراقبة الثابت والعَرَض، وانتقاد مظاهر الخلل والمرض، لأن رؤيتهم تتجاوز البطون، وتسعى إلى تقويم الشؤون، التي لا زالت طي الظنون، تمُرُّ عليها السنون، فلا تتجاوز خط الكُمُون، لكنهم كانوا قلة، وخفَّ ضغطهم داخل الشلة. وبينما هم في أخذ ورد من أمر هذه الليلة، قام "يَنْصِيص" يؤكد رأي الأغلبية، مُفتِيا في فضل الصدقة، ومنافع النفقة، وما يمس القوم بهما من بركة، حيث يأكل القريب والبعيد، والمحضون والشريد، والمأنوس والوحيد. فاستحضر الآي والسُنن، وقول الأئمة المؤتَمَن، فنظر إلى جبهة الرفض، وحثهم على البناء عوض النقض، فأومأ إليهم بكلام لطيف، ووعدهم بالفعل الشفيف، والسعي الشريف، وأثنى على قولهم المنيف، الذي يعبر عن فكر حصيف، لا يحوزه إلا الرجل العفيف، ثم قال لهم: لنجرِّب هذه المرة، فقد تسلم الجرة، فإن حدث ما يؤكد سوء النظر، وشيوع الضرر، فالعام القادم لن يتكّرر، فنمنحكم قيادة السفينة، ووعدُنا عندكم رهينة، فلنترك هذه الضغينة، ولنبدأ المساعي المكينة، فالقوم يتربصون بنا الدوائر، لندفع عنا قولهم الجائر، فتوكلوا على الله تفلحوا، واقرأوا ختام البقرة تُصلحوا، فرفع كفيه، وحرك ناظريه، وشرع بعد البسملة في القراءة بنبرة مرتِّلة ﴿ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير (284) لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين (285)﴾ آمين، صدق الله العظيم. فما إن أنهى الجمع تلاوة الآي، حتى بدوا كنغمة ناي، وتجرعت الشلة المعارِضة قبول الرأي، وبينما هم كذلك إذ بُسِطت أمامهم صواني الشاي، وقام "ينصيص" يوزع الكؤوس ببسمة عريضة، يلاطف الرجل ونقيضة، ليؤلف بين القلوب، ويثبت أمر الليلة بصبر أيوب، فما فيها لذيذ ومرغوب، وفضله عند "ينصيص" مطلوب.
وجاء اليوم الموعود، والحال ما بين شاهد ومشهود، فهناك كراكير لحم تُبْضَعُ بَضْعا، وكُوَمُ خضراوات تُبْشَرُ فتُقْطع قطْعا، فروائح البصل أغرقت الخدود دمعا، ونكهة التوابل هيَّجت اللُّعاب طوْعا، فبدأ الوافدون في التقاطر فردا وجمعا، و"ينصيص" يحسن الاستقبال، ويُلقي لكل أمر بال، فيبدو في سحنة الرجال، القادرين على كبار الأعمال، فحينا، ينظم المرور، وحينا يتلفظ كلاما يثلج الصدور، وينشر الحبور، وأحيانا، يفلت صوب القدور، فلا يفتأ حولها يدور، ويلتقط بسمعه ما في جوفها يغور، وبشمه روائحها التي تفور، حتى ضاق به الطاهي ذرعا، فأنّبه ردعا، وقمعه قمعا، فانتحى جانبا يخطط في صمت وعناد، عارفا بأن "إيمِي نْفُفُّو" له ولأمثاله بالمرصاد، فقد تم الاتفاق على ضبط المؤن والعتاد، ومنع تهريب الكسكس كالمعتاد، حتى لا يصير القوم سخرية بين العباد.
وحين أنهى المجمع الطقوس الكريمة، وآن أوان الوليمة، مُدَّتِ البُسُطُ بين الصفوف، والمكلفون على إطعامهم وقوف، يمدون آنية الغسل، فالكسكس جهز بالفتل، والمرق في قدوره حل، بقاعة خلفية نظيفة، تحكمها إشارات لطيفة، لا يلتقطها إلا كل نبيه، ولا يخالفها إلا كل سفيه، فقد ضبط "إيمِي نْفُفُّو" وكَتِيبَتَهُ كل أمر، وأوصد كل مَمَرّ، فأحسن المراقبة والعدّ، وغلّق الأبواب فَصَدّ، وأجاد الممانعة والرّدّ، وحرص على أن يؤكل الكسكس في المسجد، ولا يعيث أمره كل مفسد، فحذّر المتربصين قرب القِصاع، مَن يثيرهم النهم والأطماع، فلطالما هرَّبوا الصحون إلى بيوتهم قبل نهاية الإطعام، وتركوا للمدعوات بئس الطعام، قليل المرق والإدام، فبَدَوْن كالأيتام في مأدبة اللئام، فتبرأن من أن يكون هؤلاء من سلالة الكرام، ونسب الجود والإقدام. فجررن أطفالهن في جوف الليل، يدعون على الصدقة بالثبور والويل.
لزم "يَنْصِيص" جذع السارية، من حيث عيناه على الطعام هاوية، وعن تعاليم الحرس، عمدا، ساهية، فشتمهم في سره، وبقي في حيرة من أمره، فمُناه مَلْءُ أوانيه، والإغداق على أهاليه، بسطلين أبيضين كبيرين، يطمر أحدهما بالكسكس الوفير، ويملآ ثانيهما بالمرق الغزير، بلفته وجزره، وحمصه وقرعه، ولحمه وعظمه، لكنه بات مفطوما مذؤوما، منحوسا مهموما، يتربص الفرصة المواتية، والطفرة الآتية، فمكث، على هذه الحال، ساعة وسبع دقائق وثانية، فجاءه الفرج على يد "تِبَزْبَزْتْ" الذي جاء يتبختر في جلابيبه، ويتعثر في تلابيبه، ويوزع أوامره ونواهيه، فأمر بتحضير صحن لأحد وجهاء المدينة، الذي تربطه به صداقة متينة، ومصالح دفينة، فاستشاط "إيمِي نْفُفُّو" غيظا، وفاض غضبه فيضا، لكثرة ما أحبط من مقالب، وواجه من متاعب، وما أثقل به القوم كاهله من مصاعب، لأنه مربع الزوايا، صادق النوايا، سليم الخبايا، لا يخاف في الحق لومة لائم، ولا يركب إلا جم العزائم، ولا يكترث للشتائم، فدخل مع " تبزبزت" في نقاش عنيف، وتبادل تهم مخيف، فاضطرب الأمر، وتراجع الصبر، فتعالت الأصوات، واستحضرَ الشتمُ الأحياءَ والأموات، وقام الجمع لمنع اللّكمات، ولم الشتات، وفاضت الأفواه بكلام يملأ صفحات وصفحات، فلم ترعو النفوس الهائجة ولم تسمع العظات. وفي هذه الأثناء علت وجه "ينصيص" ابتسامة غامرة، وحفزته رغبة قاهرة، فسولت له نفسه التورط في المؤامرة، وخوض المحظور في المغامرة، فقفز بين القدور، وراح يملأ أوانيه بلا فتور، بمرق يمور، وكسكس يفور، متمنيا أن يستمر الصراع حتى وقت السحور، وحين أشبع نهمه من حفن الكسكس، نظر حوله إلى خشب القاعة كالقندس، باحثا عن ثقب أو كوة، يخبئ فيها ما غنمه بالحيلة لا بالقوة، لكن بعض العيون كانت له بالمرصاد، فخاف أن يقع في شرك صياد، فحمل نفسه حملة واحدة، واستنفر ساقه وساعده، وتدحرج عبر الدرج الخلفي للمسجد، فمعرفته بالمسارب خير مرشِد، ولحس حظه وجد الباب من دون حارس، لأن الفتى من أمر التنظيم يائس، فقد استنكر عهود القوم، الذين سددوا البارحة السهم، وكسره أحد زعمائهم اليوم، فترك الباب مفتوحا على مصراعيه، ووسّع للمتربصين حواليه، فتدفقوا كسيل العرم، يملأون الأكياس بجشع ونهم.
انبرى "ينصيص" في الدروب مسرعا، ونفسه تحدثه بأن لا يظل لهم متطوعا، وبينما هو سائر في الظلام، مفزوعا من قبضة الزحام، متخوفا من مسالك أحسها كحقل ألغام، فاختلطت في داخله الحقائق بالأوهام، فتعثرت قدماه في ركام، فاضطربت بشدة خطاه، والتوت فجأة رجلاه، وأظلمت طرا عيناه، فعادت قصص جِنِّ الدروب إلى ذكراه، فزقاق "تْزُّكَّارْتْ" على يمناه، و "أَمَخْلُوفْ" على يسراه، فلم يدر كيف وقع أرضا، ومرقه مسكوب طولا وكسكسه مبثوث عرضا، وجسده مرضوض رضّا، فعض على نواجده عضا، فلا إلها اتقى، ولا عبدا أرضى.
وحين رأيته على هذه الحال، التي تكبد فيها الأهوال، وآلت به سوء مآل، أنشدت:
لَهَفِي على مَنْ عَقْلُهُ فِي بَطْنِهِ *** سَيَهِيمُ دَوْماً فِي غَـوْرِ مِعْيِـهِ
أُفٍّ لِقَــوْمٍ جُلُّهُـــمْ مِنْ صِنْفِـهِ *** فَمَا حَازَ النُّهَى قَيْدٌ مِنْ سَعْيِهِ.
( ... يتبع... كلما اقتضى الأمر... )