تلعب الوثيقة دورا مهما في الكتابة التاريخية، لما لها من أهمية قصوى في توضيح معالم الحدث التاريخي، فالوثيقة أكثر دلالة من مختلف المؤشرات الأخرى التي تؤرخ لزمن معين، بل الأكثر من ذلك تذهب المدرسة الوضعية إلى تأكيد أهمية الوثيقة وأولويتها في كتابة التاريخ، رغم الانتقادات التي وجهت لها في هذا السياق.

أهمية الوثيقة هذه تتجلى في ما توصلنا إليه من خلال أرشيف المرحوم ( محمد العايدي)، الذي أرخ من خلاله لحياته الشخصية كانسان خاصة، ولواقع المجتمع التنغيري بصفة عامة . فعلى المستوى الشخصي نلمس نوع من التنوع على مستوى الوثائق بين ما هو رسمي وما هو خاص، فعلى المستوى الأول  نجد مثلا مجموعة من الرسائل المتنوعة التي تم إرسالها إلى جهات متنوعة، محلية أو جهوية أو وطنية، أما في الجانب الشخصي نجد مجموعة من المراسلات التي أرخت لمراحل متعددة من حياة الفقيد، وتناولت مواضيع متنوعة (أفراح وأتراح)، والأهم من ذلك أن هذه المراسلات كلها تساعد على كشف النقاب على مجموعة من الأمور الخفية من تاريخ بلدة تنغير، وإن كان الأمر يتطلب في مسائل مهمة منها الوقوف على أرشيفات أخرى ربما قد تحمل إضافات جديدة لهذه المواضيع.

 ومن بين الملاحظات المسجلة  كذلك حول هذا الأرشيف كونه أرشيف منظم بشكل دقيق، ومصنف حسب التيمات والمواضيع في ملفات متناسقة، تحمل دلالة الوعي التاريخي الذي كان يتحلى به المرحوم، فكل الوثائق مرفقة بتواريخ دقيقة تحمل في أغلب الحالات (اليوم والسنة)، ومنها ما ترافقه ملاحظات واضحة، أو مشار إليه بنوع من الإيحاء.

هذه الطريقة المحكمة التنظيم سهلت علينا مأمورية تصنيف هذه الوثائق تاريخيا إلى شقين: شق مرتبط بفترة ما قبل 1965، والتي تضمنت وثائق وإشارات قليلة جدا، ولكن غنية من حيث المستجدات التي تقدمها للبحث التاريخي، ويمكن أن نفسر هذه الندرة بكون العايدي الطفل والمراهق لم يحقق بعد الاستقرار الاقتصادي.

ثم فترة ما بعد 1965، وهي سنة فاصلة في تاريخ المرحوم العايدي لالتحاقه بسلك التعليم، وهو ما سمح له بمراكمة سجل أرشيفي ضخم جدا ومتنوع، فبعد هذه المرحلة أصبحنا نلمس نوع من الجدية والحرص في تدوين كل ما يصادف العايدي الشاب، والذي أصبحت تتفتق فيه ميولات فكرية وإن لم نستطيع بشكل دقيق تحديد معالمها، فثارة يكتب عبارات ذات دلالة يسارية اشتراكية، وفي أحيان أخرى نصادف عبارات لمفكرين غير محددين بشكل دقيق تحمل دلالة ليبرالية، لكن دون أن يتضح لنا إلى أي كافة يميل الفقيد، فهذه العبارات المتنوعة تعتبر ربما عادية في حياة شاب عايش فترة الزهو والسجال الفكري  الذي عرفه الشباب المغربي خلال فترة السبعينات وبداية الثمانينات.

نلامس كذلك ميولات ثورية من  خلال إحدى مذكراته التي تضمنت الأفكار  السابقة، حيث يشير وبصريح العبارة إلى أحد التعريفات التي يفسر بها مصطلح المخزن ( البطش والظلم والجبروت الذي يعلو ولا يعلى عليه...هي الملامح العامة لصورة المخزن  بالمفهوم الشعبي للكلمة) انتهى كلام المرحوم.

هذا الأرشيف يتضمن كذلك مواضيع متنوعة، مرتبطة بالواقع السياسي لمدينة تنغير، منذ 1976 سنة وصوله إلى سدة تسيير جماعة تنغير، وما رافق تلك الفترة من مجهودات مبذولة لتسيير الواقع المحلي، دون إغفال الإشارات الواضحة إلى صعوبة هذه المرحلة سواء من حيث المجهود المبذول أو من حيث العراقيل التي يضعها المعارضين آنذاك، إنه سجل غني يتطلب فعلا القيام بوقفة لتمحيص هذه الفترة من تاريخ تنغير.

ثم مواضيع أخرى مرتبطة بالتسيير المحلي للأراضي السلالية لكل من (حلول وإلكان) وما رافقه من وضع تصميم لهذا المجال الجغرافي المحاذي لمركز تنغير، والذي توج  بتقسيم جزء من هذه الأراضي في سنة 1985.

 الأكثر أهمية من ذلك هو تحليل حيثيات هذه الوثائق التي توضح الاختلالات التي ترافق هذه التقسيمات، من خلال  رفض مجموعة من الأشخاص لكل ما من شأنه أن يخدم الصالح العام (رفض المقترحات، رفض التوقيع، معارضة القرارات رغم ديمقراطيتها...).

ومن المعطيات المثيرة كذلك تضمن الأرشيف لوثيقة تعود إلى 1950، وترتبط بالمجال الجغرافي الشاسع التابع لدواري (حلول و إلكان)، وتؤرخ هذه الوثيقة لطبيعة العلاقة ( الكراء ) التي تربط بين رعاة من أيت عيسى أوبراهيم و المسؤولين عن أراضي الجموع لهذين الدوارين.  

دون إغفال تضمن الأرشيف لمجموعة من الوثائق التاريخية التي ترجع إلى مرحلة الحماية الفرنسية للمنطقة، والبدايات الأولى لمغازلة الفرنسيين للمنطقة فيما يسمى بالتهدئة، التي بعثرت أوراق الجنوب الشرقي عامة منذ معركة القوس 1920.

مما لاشك فيه أن هذا السجل التاريخي سيقدم إضافات للتاريخ المحلي لتينغير، وهو ما سنحاول محاورته مستقبلا للخروج بمجموعة من الملاحظات والإضافات التي يمكن أن تغني حقل البحث التاريخ للمنطقة بصفة خاصة ، ولا يفوتنا في هذا السياق تقديم الشكر الكبير للأستاذة القديرة ( صباح العايدي)، التي وضعت فينا كامل الثقة وأمدتنا بهذه التركة التاريخية الغنية جدا.