الزهرة إبراهيم - مكناس / جديد أنفو
الجموح الثامن
"دَارُ الْعُدَّةِ" العلبة السوداء وقراصنة الفكر
عود على بدء
"دار العُدَّة" هذا الاسم ليس من باب الكلام الذي يلقى على عواهنه. فالشيخ الجليل سيدي عبد الجبار كان يعي، بحس الفقيه العلامة، أن عُدَّة العلم بمثابة عُدَّة السلاح التي تُهيَّأ للعدو، وذلك مصداقا لقوله تعالى في سورة الأنفال ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدُوَّ الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يُوَفَّ إليكم وأنتم لا تُظلَمون ﴾. العلم سلاح ضد عدو كاسح هو الجهل، والضلال، والزيف، والقهقرى، وحين يضيع هذا العلم، فالمجال يصير مناسبا لكل أنواع الزلل هاته، وبما تفرزه من آفات تتجذر في ثنايا التفكير والسلوك على مدى قرون طويلة.
تُعَدُّ أجهزة السلامة، وأجهزة الرصد، والكاميرات في المرافق العمومية من أهم عناصر اللوجستيك في عالمنا الحديث، وذلك، حفاظا على أمن الموارد البشرية والمادية والرمزية، كما تقوم بتسجيل المخالفات قصد تعزيز السلوك المدني الراقي، وأيضا ضبط وتقويم مجموع المخالفات التي تمس بمصالح الوطن والمواطنين. ولعل الدول التي بلغت شأوا في السلوك السليم، قد وظفت هذه الآليات المُنَظَّمِ اشتغالُها بقوة القانون حتى تحقق أهدافها بنجاعة، لذلك، فنحن أحوج من غيرنا إلى هذه الترسنة من أجل ضبط جم الخروقات.
في القديم، اشتغل الناس، فيما يتعلق بالنفائس المادية، بجهاز سلامة أخلاقي قوامه الثقة، والعفة، والتقوى، والقناعة، وكان من المستحيل على إنسان مسلم مهذب أن تمتد يده لما ليس ملكا له، أحرى أن يسرق جهودا مضنية من الدرس والبحث والقراءة والتأليف أفنى فيها غيره عقولهم، وعمرهم، فقط لمجرد أنه وجد نفسه يوما، بالصدفة، وبفعل انتماء سلالي، قادرا على أن الوصول إلى كتب لا يفك مستغلقاتها، ولا يستطيع أن يضيف حرفا إلى صفحاتها. وحتى في بعض الحالات التي كان بعض من هؤلاء يجيدون رسم أبجدية اللغة العربية، إلا أنهم لا يجيدون أبجديات الأمانة الأخلاقية، لأنهم نهبوا ما ليس حقا لهم، مستغلين تسيُّب أوضاع تدبير ذخائر الإرث العلمي لخزانة سيدي عبد الجبار وبنيه.
والحال هذه، فإن "علبة سوداء" كان حري أن يُفَكَّرَ في تثبيتها منذ البدء، أي منذ تأسيس هذا المعقل الديني والعلمي، لا سيما وأن بوادر التردي السلوكي والاجتماعي كانت قد بزغت، وقتها، بشهادة من عاصر أسلافهم وعاشرهم، دليلنا على ذلك، فيم ذكره المحققون من قول الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الجبار الفجيجي في أبناء بلده:
« باسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه- لما كان بلدي فجيج أشبه بالبادية من الحاضرة، وعقول عوامها وهممهم عن معاني الناس قاصرة، وقلوبهم بما انطوت عليه من الأحقاد متناكرة متنافرة، وعلى البغضاء والشحناء متظاهرة متضافرة، في فتن تصبح فيها فئة مؤمنة وتمسي كافرة، وفي حمية جاهلية عاقبتها الندامة في الدنيا والآخرة، (...) ثم ابتليت بخطة الحكم بينهم ومعاناة الأجلاف منهم والجلامد، ومقاساة شيطنة كل مارد، لا سيما الطائفة الموسومة منهم بالأفارد،. فربما جن علي ليل الانقباض، فأفر منهم إلى الصحراء كالبعير الشارد، فأستريح برهة من الزمان من ثقل الصادر منهم والوارد، ثم يردني إليهم حقوق المال والأهل والولد والوالد...» المرجع: روضة السلوان- لأبي إسحاق إبراهيم بن عبد الجبار الفجيجي- اعتنى بنشره وترجمته والتعليق عليه: نور الدين عبد القادر والحكيم هنري جهيه- منشورات معهد الدراسات الشرقية- كلية الجزائر- المكتبة العربية الفرنسية- السلسلة الجديدة- 1378هـ - 1959م.
أيْ، نحن بحاجة إلى علبة سوداء لنستطلع، بعد كارثة النهب والسلب، أسماء أولئك الذين امتدت أيديهم إلى المخطوطات، والكراسات، معتبرين إياها ملكا لهم، وحقا مشروعا يتصرفون فيه كيفما شاؤوا بنزوات الطمع الاستحواذ التي يحركها الجهل بالقوانين السماوية والوضعية المنظِّمة لمثل هذه الأمور.
سمعنا نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة، وفق تصريحات رئيس رابطة الشرفاء أبناء سيدي عبد الجبار، أن ثمة كتب لا زالت في خزانة الضريح، وقتها، ونظرا لتضمن محضر اجتماع الرابطة سنة 2011 مسألة إنشاء لجنة علمية وثقافية مكلفة بضخ دماء جديدة في تاريخ هذه الزاوية العلمية بفتح مشاريع للبحث العلمي، وتنظيم ملتقيات فكرية، وأيام دراسية وإلخ... ، وَعَدَنا السيد الرئيس بفتح الخزانة، والنظر في ( ما تبقى من الوثائق )، وتسجيل ذلك في محاضر قبل الشروع في دراسة ما يمكن دراسته من مؤلفات بطريقة شفافة تصون بقاء الكتب في ماديتها، وتصون رمزيتها في ما سيشع من بحوث حولها حسب وجهات نظر البحث المنهجي، لا سيما وأن عددا من عقب العلامة سيدي عبد الجبار لهم مؤهلاتهم الأكاديمية لمباشرة مثل هاته المشاريع العلمية، بأولوية وجدارة.
لكن الغريب في الأمر أن كل ذلك الكلام لم يكن إلا من قبيل الدعاية الانتخابية التي كرست أوضاع المغرب العميق على جميع المستويات، جملة وتفصيلا، إذ بمجرد أن ضمن السيد الرئيس ولاية أخرى، أدركه الصباح، وسكت عن الكلام المباح، ولم يفتح الخزانة كما وعد، بل الأدهى والأَمَرّ من ذلك، أن مفتاحه لا يدور في قفلها إلا للأغراب، حيث وصلنا، من مصادر موثوقة، أنه كلما جاء زائر من مدن بعيدة، ممن يتوسم فيهم الوجاهة والمنصب، ويسعى راغبا إلى استدعائهم إلى الضريح، لحاجة في نفس يعقوب، هرع ينشر أمامهم الوثائق التي تتردى وضعيتها سنة بعد أخرى، وقد بلغنا أن الأرضة فعلت فعلها في ما تبقى من هذه النفائس، كما يحق لنا أن نطرح سؤالا مشروعا:
بأي حق يُطلع السيد الرئيس هؤلاء على هذه الوثائق؟ وما الغاية من وراء ذلك؟ وهل يستشير المكتب قبل أن يُقدم على مثل هذه التصرفات؟ وهل عدد هذه الوثائق باق هو هو، قبل الزيارات وبعدها؟ ومنذ منذ توليه رئاسة الرابطة إلى حد الآن؟ ما دام كل هذا يجري في إطار مبادرات شخصية ومنعزلة، أقل ما يقال عنها أنها خارج إطار القانون.
الضريح وخزانته ليسا ملكا للسيد الرئيس ولا لغيره، والمطلوب، قانونا، قبل أن يستلم، أيٌّ كان، رئاسة الرابطة، أن يتم جرد وتسجيل للوثائق والمحتويات في محاضر مختومة ومصادق عليها، ولو كانت قصاصات وهشيما، توخيا لمصداقية التسيير، وحتى لا يُلْقِيَ الَّلاحق التهم على السابق في تاريخ مليء بالاختلاس، والتمويه، والزيف، والغموض.
من غرائب القصص أيضا، خلال الأسابيع الأخيرة، التقينا صدفة أحد رجالات فجيج المغتربين، والمهتمين بتراثها العلمي، فجرى الحديث بيننا حول مشاريع البحث والترجمة إلى أن بلغنا مسألة "وزيعة وثائق دار العدة"، فخاطبني مستفهما إذا كنت أملك بعضها؟ ابتسمت، وأجبت صدقا بالنفي القاطع - طبعا لأنني قد أكون من المغضوبات عليهن التي ينبغي محاربة تجرؤهن على المسكوتات التي تنخر بنية بكاملها- أحرى أن تحظى بهذه النفائس المدفونة في انتظار المزاد. قلت :
- هل تصدقني أنه ليس بحوزتي سوى صورة منسوخة لتحقيق كتاب "روضة السلوان" الذي أنجزه كل من هنري جهييه ونور الدين عبد القادر، وبها تمكنت من إنجاز دراسة أنثروبولوجية لأدبيات القنص بالصقر في عدد من الثقافات الإنسانية، وحيَّنت قصيدة "السلوانية" حتى تصل في مقاربة جديدة لكل قراء العالم العربي والغربي.
ضحك مخاطبي طويلا، ثم قال :
- هل تعلمين؟ إنني حزت من خزانتكم على وثيقة مهمة؟
نظرت إليه في ارتياب، وحتى يقطع التوجس في ذهني، أردف بنبرة واثقة:
- لم أسلبها كما فعل بعضكم! اشتريتها، لكن بطريقة حاذقة، لكنني سأمنحها إشعاعا عوض موتها في الصناديق المهترئة!
- كيف ذلك؟
- بعثت شخصا غريبا عن فجيج، هو الذي ابتاعها من أحدهم...!
- رائع، الله يعطيك الصحة! أغبطك على هذا!
واستمر حديث حول هذه القضية... ذو شجون...
لمجابهة مثل هذا الوضع، كنا سنحتاج إلى علبة سوداء نستنطقها، فَتَسْرُدَ، أولا بأول، وبالتفاصيل الدقيقة قائمة أسماء وبصمات كل من استباحوا موروثا لا حق لهم في حيازته داخل بيوتهم، لأن تلك الكتب ملك عام، من حق كل أهل العلم والفكر، وطلبته، ومن جميع بقاع الدنيا، لأن هذه الزاوية درس بها البعيد قبل القريب، وحازت من الكتب ما جاد به فطاحل المشرق قبل المغرب. نعم، نحتاج إلى علبة سوداء نستنطقها حتى يُحاكِم التاريخ العلمي لـ "دار العدة" مجرمي الفكر وقراصنته، على غرار ما تتم به محاكمة مجرمي الحرب، لأن تدمير الفكر هو أبو الجرائم إذا كانت الحرب أمها.
يعود الجيل الأخير إلى ظل "دار العدة"، لا يجد شيئا سوى اسما يعزف على ما تبقى من ذكريات وحنين. وحري بالجهود التي يتجشمها عناصر من هذا الجيل، في قضايا فكرية مختلفة، أن تتجه إلى بعث ذخائر هذا المغرب العميق من تحت الغبار والنسيان حين يتم الإفراج عن " مخطوطات الأَسْرِ"، ويمكن أيضا أن نقول عنها، غُبْناً، بأنها، حاليا، وبالفعل، "مخطوطات الْأُسَر" ( بضم الهمزة وفتح السين) ما دام بعضهم قد عَدُّوها ممتلكاتهم الخاصة. ولا شك أن التقدم الحقيقي يتنجَّز بالبحث العلمي، وبالإضافات التي تضمن متوالية النظر في قضايا المعرفة التي بإمكانها أن تصل واحة قصية ومقصية بمطالب التنمية الصحيحة، حين يصير العلم دينا ودَيْدَناً، والصدق في الأعمال والأقوال عقيدة ومبدأ... ولا جدوى من تقدم يقوم على توفير الحداثة المادية، واستيرادها للاستهلاك، في غياب فكر ووعي حداثيين، يسيران، تزامنيا، جنبا إلى جنب، مع كرونولوجيا التطور العلمي، والتقدم التكنولوجي!
أعود مجددا إلى "البرنامج الانتخابي" للسيد الرئيس الذي ما انفك يبشر به كلما أقبلت الرابطة على تجديد مكتبها، والذي تَقَوَّلَ من بين ما تَقَوَّلَ: (السعيَ إلى بذل أقصى الجهود، وبكل الوسائل الممكنة، حتى استعادة جزء من المخطوطات المنهوبة، وصيانة النزر الباقي الموجود في خزانة الضريح، ثم الانخراط في مشاريع البحث العلمي لاسترفاد هذا الموروث ورد الاعتبار إليه). إن رهانا من هذا القبيل، لا سبيل إلى تحقيقه إلا من لدن من لا يسعون لا إلى مال ولا إلى جاه، ولا إلى سلطة، همهم الوحيد والأكيد هو الإنتاج العلمي المحض، وتأكيد أن فجيج ليست مغرب الجهل والإقصاء والتخلف في بُناها الفوقية، وأنها قادرة، دوما، على أن يبزغ من بناتها، وأبنائها من سيتركون دمغتهم في الفكر الإنساني... قاطبة.
إن هشاشة أوضاع المغرب العميق، كما تَعَوَّد قولَ ذلك كثيرون، ليس قصرا على سوء سياسات مدبري شأنه محليا وجهويا ومركزيا. فحين تصلح القاعدة، وتغير ذهنيتها نحو الأجدى والأصح، سيصير من السهل استئصال كل أشكال الخلل الذي يساهم المواطن في تكريسه بسكوته، أو بتواطئه المُضمَر والمُظهَر، لأن هؤلاء الذين تُنسب إليهم ألوان من سوء التخطيط، والتدبير، والتسيير أفرزتهم صناديق الاقتراع، وأصوات القواعد التى يتم ابتياعها بيسر، أو انسحبت إلى الهامش حتى لم تعد تقو حتى على تتبع ومراقبة الخيط الأحمر أو الخيط الموصل لقضايا وإشكالات هذا الشأن العام.
سؤال : في فلسفة الحداثة السياسية، ماذا ينبغي لمسؤول مَّا، يحترم نفسه وفصيله، أن يفعل، حين لا يلتزم، لسبب أو لآخر، ببرنامجه الانتخابي؟ .
( يتبع...)