لحسن أيت الفقيه
كثُر الذين يحبون أن يتغابوا قصدا، أن كانوا عظماء بعض الهيئات والجمعيات، أو أغبياء بالفعل، جبلوا على العبث بالشأن العام، وساعدهم القدر في أن يستغلوا فرص الانفتاح بعيد سنة 1990، حيث انطلق العد التنازلي في موقف الدولة المغربية من مصادرة الحريات وانتهاك حقوق الإنسان، وممارسة القمع. فمن هؤلاء من بات يفكر في الحقوق الفئوية كالإعاقة والطفولة، ومنهم من نشأ يقتات في الميز القائم على النوع، واشتغل في الجمعيات النسائية، ومنهم من تأثر بالميز القائم على اللون بالجنوب الشرقي المغربي خاصة، وانقطع لشأن الولوج إلى الحق في التوزيع المتكافئ لموارد الطبيعة. وباختصار، صاحب الانفتاح المغربي التفكير في الإنسان، وتلك واحدة من الحسنات، ولو كان الانفتاح سطحيا، في الغالب، حتى لا نكون متفائلين أكثر من المطلوب. وصاحب الانفتاح، أيضا، رسم الحدود الحمراء التي تغشى الهوية الثقافية، لذلك كان اعتقال ثلة من المناضلين في فاتح مايو من العام 1994، لا لشيء سوى أنهم خرجوا بلافتات مرسومة بتيفيناغ، وكان الحدث دافعا إلى استحضار الهوية الثقافية، أو بالأحرى البعد الأمازيغي في الهوية المغربية، والمكون الأساسي في التعدد الثقافي. ويعنينا أن مجالات الاشتغال واضحة المعالم في رحاب الممارسة، فكان من الماهنين من يلامس الحقيقة الواقعية، ومنهم من يسوق الوهم، ومنهم من يظل يعتمد على المرجعية الثقافية القديمة التي تحتقر جسد المرأة ولا تعتد بالطفل. وللأسف الشديد اقتحم هؤلاء حقل الطفولة ليحسبوه حقلا وهميا. فإذا كان حقل الطفولة مؤسسة على اتفاقية دولية معتمدة سنة 1989، لتُعنى بالنهوض بأوضاع الطفولة على المستوى الدولي، وعلى المستوى المحلي، الاتفاقية المدعمة بهيئة تعاقدية، فمعنى ذلك أن الذين تمكنوا في البلاد باسم حقوق الإنسان، وقد لا نستثني منهم الماهنين الذين يحبون أن يقتحموا المجال الذي رسمته هيئة الإنصاف والمصالحة، لا يزالون لم يكتسبوا الخطاب الحقوقي، وطالما ضل بعضهم وأنشأ قاموسا لنفسه كنحو الفئات الهشة، التي يقصد بها بالباطل، الأطفال، والنساء، والأشخاص في وضعية إعاقة، والسجناء. وإنه في كل افتتاح رسمي لمحافل جهة درعة تافيلالت تلتقط الأذن ما يسمى «الفئات الهشة». صحيح أن هناك أطفال في وضعية هشة بجهة درعة تافيلالت، ونساء يتخبطن في أهوال الفقر والأمية والتخلف، ومعاقون محاصرون بسطوح البيوت، لكن ذلك لا يعني أن تلك الفئات تفتقر إلى الحماية.
لنتنبه قليلا، ونمارس الفعل في عالم اليقظة، إذ نبتعد عن الأوهام والأحلام، ونعترف أن للطفل اتفاقية دولية، وكذلك الشأن بالنسبة للأشخاص في وضعية إعاقة، ولا يجب ألا نغفل اتفاقية «سيداو»، «Cedaw». وإنه من العيب إضفاء الهشاشة على حقول التطبيق «Champs d’application» المهمة في بساط حقوق الإنسان. من العيب أن نزاور عن المجال الحقيقي، ومضامين الاتفاقية «الاتفاقيات». وبعبارة أوضح، فإذا قدر لك أن تحمل صفة ماهن جمعوي أو ماهنة، «ولا نقول فاعل ولا فاعلة، لأن الكلمتين متصلتان بقاموس الإجرام والدعارة»، فإنك مهتم بالشأن العام، وبالسياسة العمومية وضمنها السياسة المعتمدة بجهتك، على الأقل. وسيكون من اليسير أن تنادي كل مؤسسة اجتماعية وتطرق بابها عسى أن تعتمد ركن الطفولة في برامجها. يحق لك أن تنادي بفعلية حقوق الإنسان، الفعلية من الفعل «Mise en ouvre»، وليس من الخطاب الذي يتقنه المهرجون، في الجمعيات العائلية، والموالية لبعض الأحزاب.
لنعود إلى جهة درعة تافيلالت بجنوب شرق المغرب، مع التركيز على الطفل، وإن جل الأطفال هناك في وضعية هشة، لا لشيء سوى أن المؤسسات الاجتماعية تحب ألا تجعل من الطفل أولوية في سياستها. وكلنا يعلم أن الجهة نطاق جغرافي ملونةٌ خريطته بماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. لقد غشيها الإقصاء والتهميش بشهادة هيئة الإنصاف والمصالحة، ذاتها، التي أثبت في المنتدى الذي نظمته في أواخر شهر شتنبر من العام 2005 بالرباط، أن هناك علاقة تخلف التنمية بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان لذلك أوصت بجبر أضرار هذه المناطق. ولم تغب الملاحظة ذاتها على فريق الاتحاد الأوروبي الذي ربط تهميش قرية تازمامارت بوجود المعتقل السري بها.
تعد جهة درعة تافيلالت بساطا لسجون سرية، تازمامارت، وقلعة مكونة، وسكورة، وأكدز وتاكونيت، وكرامة، أحدث لغاية الانتهاك، وممارسة الموت البطيء على المعتقلين الذين كتب لهم أن ينزلوا ضيوفا، هناك، ومنهم المعتقلون الذين حاق بهم التعذيب والاعتقال في مواضع احتضنت أحداث مارس من العام 1973 بكل من بوزمو، وإملشيل، والسونتات، وأملاكو، وأسول، وكلميمة، وتنغير، حيث نزلت العساكر على سكان هذه المواضع، وعمّ الاعتقال والتعذيب، وصاحب ذلك تخلف التنمية. وحينما قالت هيئة الإنصاف والمصالحة، كفى من استمرار أزمة الثقة بين الدولة والمواطنين، وحق إعمال المصالحة بين هذه المناطق والدولة، والحل والوسيلة أن تخصص مشاريع تنموية، تندرج ضمن برنامج جبر الضرر الجماعي، الذي يعد تجربة ينفرد بها المغرب، نسيت الجمعيات التي قدمت مشاريعها للاستفادة من دعم الاتحاد الأوروبي، أو تغافلت عن الطفل. وإذا استثنينا مشروع المساواة بين الجنسين الذي حملته جمعية أصدقاء التلميذ القروي بالرشيدية والذي استهدف الطفل، وما قامت به شبكة الجمعيات التنموية لواحات الجنوب الشرقي بموضع السونتا، إملشيل، في إطار برنامج حفظ الذاكرة ومصالحة النساء السونتات «SMR femmes» لا شيء يسجل بدرعة تافيلالت، في حقل الطفل بعيد أعمال هيئة الإنصاف والمصالحة. صحيح المفعولات المنتظرة لبرنامج حفظ الذاكرة امتدت إلى مركز إملشيل حيث أنشىء بموازاة هذا المشروع مركز استقبال الفتيات بإملشيل، الذي هدف إلى تشجيع تمدرس الفتاة القروية. ونظمت قافلة إلى أكدز، وإن كانت غير مضمنة في فقرات المشروع، فهي ذات دلالة في بساط الطفل، أتت استكمالا للمشروع. وهدفت هذه القافلة إلى تحسيس الفاعلين المحليين بورزازات وزاكورة بمعاناة النساء خلال ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وتقديم المشاريع النموذجية المنجزة بإملشيل، حول حفظ ذاكرة فاضمة أوحرفو التي اعتقدت بالسونتات، وسجنت بالسجن السري أكدز إلى أن قضت هناك. وفي إطار تبادل التجارب، عرض المشروع المنجز بزاكورة حول تعزيز قدرات الجمعيات العاملة في مجال حماية حقوق النساء. وهدفت القافلة ثالثا إلى تمكين فتيات إملشيل من الاحتفاء بذكرى فاضمة وحرفو عبر زيارة قبرها بأكدز وذلك هو الجانب الثاني المهم من الذاكرة في المشروع. وإنه في هذه الرحلة اكتشفت فتيات إملشيل أن إحداث لوحة شاهدة على قبر فاضمة وحرفو تكريما لها وإنصافا، يعد بمثابة تذكار يهدف إلى الحفظ الإيجابي للذاكرة. وأما الاهتمام بالزرابي فيعني الاستمرار في تذكر واحد من أنشطة الشهيدة فاضمة وحرفو.
وتجب الإشارة إلى أن العقلية التقليدية بالجنوب الشرقي المغربي، لا تنظر إلى الطفل بعين الرض والاعتبار. وما كنا هنا لننثني إلى الموقف الثقافي من الطفل لوسعة بساطه، وتعدد شعابه. ويكفي القول، إن الطفل من الذين لا يحق رد السلام عليهم عملا بالبيت الشعري حول أخلاق السلام، مقتطف من أرجوزة مشهورة:
أو سلم الطفل أو السكران أو شابة يخشى بها افتتان
ورد في سياق سرد الحالات التي لا يُرد عليها السلام. ولا شك أن هذه العقلية هي التي أفرزت خطابا تحقيريا، لم تنج من وقعه الهيئات الحقوقية، للأسف، خطاب ينعث الفئات التالية بالهشاشة:
ـ فئة النساء لأنهن «ناقصات عقل ودين»، في وسط لا يزال يعتبر ذكر المرأة استفزازا للشخص وخدشا لعواطفه: «امرأة حشاك»، باللسان الدارج المغربي.
ـ فئة السجناء، لأنهم من الذين أجرموا، بحسب هذه العقلية.
ـ فئة الأشخاص في وضعية إعاقة، لأن هؤلاء وصم لدى بعض الأسر بجهة درعة تافيلالت.
ـ فئة الأطفال الذين لا يعتبرون حتى يبلغوا سن الرشد.
وللأسف الشديد، لا تزال بعض الجمعيات تزيغ عن المرجعيات الحقوقية وتزاور عنها، وتردد النعت، «الفئات الهشة» في خطابها اعتمادا على المرجعية الثقافية. وكل من يردد «الفئات الهشة» تراه يتوسل لقواد السلطة «جمع قائد»، وعمال الأقاليم عسى أن يفعلوا شيئا درءا للحرج والعار. فكيف يحق لهؤلاء أن يحملوا صفة حقوقية، وهم يميلون كل الميل إلى اعتماد المرجعية التقليدية؟.
فما الحل إذن؟ وقبل ذلك أين يكمن الإشكال؟
لنبدأ بطرح السؤال، ما الذي يؤثر على الطفل؟ وبعده نتساءل: ما التوتر الذي يحول دون إعمال اتفاقية حقوق الطفل؟ وما مجال الممارسة، أو حقل التطبيق الذي يحق اتخاذه عينة مرجعية؟ إنها أسئلة تلامس المرجع وتسائل الفعل في مجال جغرافي محدد، جهة درعة تافيلالت بجنوب شرق المغرب، أفقر جهة في الوطن.
فبصدد السؤال الأول، نلفى أن العقلية التقليدية هي التي تؤثر على الطفل. صحيح أن هناك تباين في المواقف، لكن هذه المواقف يجمعها قاسم مشترك يسوده عدم الاهتمام بالطفل. لنستشهد أولا، بالطفلة الهالكة نعيمة أروحي، المنتشر صدى خبرها في ثلة من الوقائع، ابنة قرية تفركالت بإقليم زاكورة، جنوب شرق المغرب. اختطفت لتغتصب يوم 17 من شهر غشت من العام 2020، وتذبح على أحد مواضع الكنوز، استعطافا بالدم البشري للأرواح والأشباح التي تحرص الكنوز. وسلف، ثانيا، أن اختفى طفل بضواحي مدينة زاكورة، قبل سبعة أشهر، من اختفاء نعيمة. ولا شك أن البحث عن الكنوز، وإرضاء الشهوات الجنسية، عين العقلية التقليدية التي لا تبالي بالطفل، ولا تنظر إليه أنه إنسان. ودون العروج إلى السياسة العمومية، إن وجد منها ما يغشى بساط الطفولة، نسجل، ثالثا، أنه في يوم 28 أكتوبر من العام 2020، خرجت مربيات التعليم الأولي بإقليم الرشيدية لخوض وقفة احتجاجية أمام مقر ولاية درعة تافيلالت، لا لشيء سوى أنهن ماهنات في التربية حرمن من فتح رياضهن لممارسة التربية. والملفت للانتباه أن أبناء الشعب الفقراء هم وحدهم المحرومون من التعليم الأولي. وأما القادرون على دفع مصاريف التعليم فمكانه شاغر بمدارس التعليم الخصوصي، فلا ضرر يحيق بهم جميعا. ومن مشاهد الهشاشة، وتراجع الآداء الحقوقي، نذكر رابعا، أنه في يوم الخميس 22 من شهر أكتوبر من العام 2020 تعرضت فتاة قاصر لم تتجاوز 14 سنة للاغتصاب. تتابع دراستها يومه بالسنة الثانية ثانوي إعدادي بإعدادية أبي سالم العياشي بالريش. وحسب ما روجه وليها من ادعاءات أنها مستغلة جنسيا من لدن سائق حافلة النقل المدرسي الذي يربط قرى الضفة اليمنى لواد زيز، جماعة سيدي عياد، بالثانوية الإعدادية، في رحلات مكوكية. ومما يعاب على حال التلميذة أنها تتغيب عن الدروس، لذلك استغل السائق الفرصة، وبالغ في إخفاء أمرها، إذ تمكث طيلة الحصص التي تتغيبها، في خلوة، بالحافلة، حتى تخرج زميلاتها. ولأن إدارة الثانوية الإعدادية لم تعلم والدها كتابة بخبر تخلف ابنته عن الدروس، باتت القاصر تقضي بعض الوقت بالحافلة، التي تركن واقفة أمام باب الثانوية الإعدادية. ويكفي مكوثها لفترات متكررة لإنشاء الألفة بين القاصر والسائق الذي لم يجد حرجا في داعبتها. ولما طمأنها أنه سيخفي الفعل، وسيطوق نشر الزلة، أخرجها إلى موضع ينسب إلى مواطن إغريقي فوتيس ديلياكوس، كان بنى فيه مقهى، إبان الحماية الفرنسية، ومن هناك ذاقت القاصر الوطء العنيف، الذي افتض بكارتها، حسب ما تداولته وسائل التواصل الاجتماعي. ظلت التلميذة الضحية تعاني من الوصم، خصوصا وأن نشر الزلة عم بالوسط. ومن معاناة الضحية أن زميلاتها بتن ينزلن عليها باللائمة، كأنها مسؤولة عن الزلة. وظلت الطفلة تسرق أباها لتدفع بعض النقود إلى الزميلات عسى أن يكتمن سرها، ويكفن عن اللوم. بلغ أمرها والدها وفتح الدرك بالريش البحث، وعرضوا الملف على استئنافية الرشيدية. وللأسف الشديد، لم تعد الطفلة قادرة على مواصلة دراستها، مما سيؤثر على حقها في التعليم. ذاك هو وجه الهشاشة بالفعل، فلا تدخل لمعالجة الوضع، عدا المحاولات التي تبذلها جمعية آباء التلاميذ بالريش.
إن المرجعية الثقافية التقليدية والفقر أهم مؤثر على الطفولة بجهة درعة تافيلالت. وأما الجهات المسؤولة فتتعامل مع شأن الطفولة بترسيخ الفئوية والطبقية.
وبصدد السؤال الثاني، لا آثار لاتفاقية حقوق الطفل في البرامج والمناهج والأنشطة، لغياب السياسة العمومية ذات الصلة بالطفل. صحيح أن هناك من يقرع طبول الطفولة، هنا، وهناك، بتنظيم الندوات، والموائد المستديرة، أملا في النهوض بثقافة حقوق الإنسان في مجال الطفولة، إلا أن تلك الأنشطة محدودة التأثير ومحجوزة الآداء، وغالبا ما تحففها المظاهر الاحتفالية، ومشاهد الظهور أمام الكاميرات الرسمية.
وبصدد السؤال الثالث الذي يوم تأسيس مجال الممارسة الحقوقية في مجال الطفولة بجهة درعة تافيلالت، وجب تسجيل المقترحات التالية:
ـ تكوين مختلف المتدخلين في مجال الطفولة ليكتسبوا ثقافة حقوقية، ومهارات الاستماع والتوجيه حول تقنيات الاستماع وتحرير التقارير والمراسلات.
- دعم جهود الحملات التحسيسية التي تنظم، عادة، بجهة درعة تافيلالت لتسجيل الأطفال غير المسجلين في سجلات الحالة المدنية.
- مواصلة تفعيل برنامج تمدرس الأطفال بالجهة، ومحاربة الهذر المدرسي، ومحاربة التحرش الجنسي، والتنسيق بين الشرطة والمؤسسات التعليمية.
- وضع خطة عمل حول تظلم الأطفال ضحايا انتهاكات حقوقهم وتعزيز آليات رصد تلك الانتهاكات وتتبعها بمشاركة الأطفال أنفسهم، وبتنسيق مع الجمعيات التي تعتني بالطفل.
- عقد دورات تكوينية لفائدة جميع الشركاء المتدخلين في مجال حماية الأطفال ضحايا العنف، وتمكينهم من الاستفادة من المرجعية الدولية ذات الصلة.
- تشجيع البحوث الميدانية في مجال الطفل، وخاصة في البنيات التقليدية المغلقة التي لا تساعد على حماية الطفل.
- إعداد برنامج لمحاربة تعاطي الأطفال للمخدرات.
- إيجاد آلية تهدف إلى استفادة النساء والأطفال ضحايا العنف من الدعم النفسي، والتتبع من لدن أطباء اختصاصيين.
- مواصلة الحملات التحسيسية والتوعوية لمحاربة ظاهرة العنف ضد النساء والأطفال.
ـ الحد من إسناد شأن الطفل لغير المؤهلين سواء في المخيمات أو في المدارس أو في رياض الأطفال، أو في النقل المدرسي.