الزهرة إبراهيم - مكناس / جديد أنفو
الجموح الرابع :
لِبَابِلَ حَدَائِقُها الْمُعَلَّقَةُ
ولِفجيجَ حَدِيقتُها الْمُغْلَقَة
في الوضعيات السليمة، عبر العالم، قديما وحديثا، تُهيَّأ الحدائق لتُفتح في وجه الناس باعتبارها فضاء أخضر يلعب أدوارا بيئية وجمالية داخل التجمعات السكنية، إن بالمدن أو القرى. لقد تحدث ابن خلدون في "المقدمة" عن فن الحدائق وولع الشعوب المتحضرة بها. فماذا عن أوضاع حدائق من المغرب العميق في الألفية الثالثة؟ .
بفجيج حديقة "عمومية" يتيمة، لكنها جميلة تتوسط الحي الإداري وتمنحه ملمحا رائقا على امتداد السنة بما فيها من أغراس ونباتات وورود، إلا أنها مغلقة على الدوام، سوى في حال تنظيم أنشطة أو أوراش للأطفال أو الشباب، فإنها مكان مريح لإنجاز عدد من الأنشطة والفعاليات.
لم أتعب نفسي في طرح أسئلة عن سبب أو أسباب هذا الغلق، لأنني، بعيدا عن كل انتماءات ضيقة، أنحاز للبيئة أولا وأخيرا، وبالتالي، فأنا مع فكرة الغلق التي تحافظ على مكتسب لم تحققه المدينة إلا بمساهمة من يحبون الفضاءات الخضراء وينفقون في سبيلها اعتمادات مهمة. ويكون من العبث وتبذير المال العام فتح بوابات الحديقة ليُعاث فيها الفساد، ويتحول جمالها إلى قبح منفر كالذي نشهده في ما يسمى "حدائق" عبر التراب الوطني، حين تمزق الأيدي ورودها، وتقصم أغصان شجيراتها، وتكسر مصابيحها، بل تدنس جوانبها وزواياها بالبول والغائط، فتصير مرحاضا مفتوحا تُنتهَك فيه البيئة والآداب العامة الخاصة بالمجال العام الذي أسهبت الفلسفة الألمانية في دراسته ورسم قوانينه وسلوكات التصرف داخله.
قال لي مخاطبي غاضبا:
- أنت لا تفهمين شيئا في سياسة هذه المدينة، إنَّ غلق أبواب الحديقة في وجه المواطنين، خاصة النساء والأطفال له خلفية سياسية لمدبري الشأن المحلي، و......، و.......، و.......... كلام كثير وكبير، قديم وجديد، واضح ومبهم......... وتطول الأوصاف....
قلت:
- هل المواطن الذي تتحدث عن حقوقه في الاستفادة من هذا الفضاء الأخضر في مستوى احترام وصيانة "حديقة فجيج المغلقة"؟
أجابني:
- ليضعوا حارسا!
كنت أعتقد أن مخاطبي يعي أن العديد من المعضلات الاجتماعية تكتسحنا يوميا لأننا شعب صرنا نتشدق بشعار كبير ومغلوط: ثقافة الحقوق من دون واجبات. كل الناس صارت تجيد الكلام عن الحق مقابل نكران خطير للواجب. هؤلاء النساء والأطفال الذين نطالب بحقهم في هذا الفضاء، هل يملكون مستوى من السلوك المدني للحفاظ على الحديقة؟ أقول: لا، حتى لا أقول: أبدا، لأنني شاهدت مرات عديدة، وأنا في زيارة للواحة، كيف يتعامل أصحاب هذا الحق مع هذا الفضاء العام: طفل يجذب أغصان شجيرة لينتزع بعض زهورها، وأُمٌّ تلقي داخل الحديقة علب اليوغورت الفارغة وأكياس البسكويت عبر السياج الحديدي بعد أن أنهت إطعام صغارها خلال فسحة بساحة بير إنزران. تابعت اللقطة، ولكنني لم أسكت عن هذا الجرم. قلت لها: هل الحديقة مكان لإلقاء النفايات؟ لم تجبني، نظرت إلي نظرة شزراء، لكنني مع ذلك أرشدتها إلى كيفية التصرف بأزبالها حين تكون في مكان عام، ليس من حقها أن تلحق به أدنى ضرر.
في ساحة بئر إنزران نخلة ارتكبت إثما بإثمار عراجين تمر هذا العام، أقول لكل هؤلاء الذين يستنكرون إغلاق الحديقة أن ينتبهوا إلى العنف الذي مارسه الأطفال واليافعون على هذه النخلة منذ بدأ بلحها يَصْفَرُّ ليصير رُطَباً؟ .
كل صباح يترك "أطفال الحجارة" شتاتا من الحجر تحتها، علما بأن هذا السلوك يعرِّضُ مصابيح الإنارة العمومية إلى احتمال الكسر بسبب التلويح بالحصى.
أ لهذا الصنف من المواطنين نهيء الفضاءات الجميلة بحدائقها ومصابيحها وكراسيها وصناديق قمامتها التي تبقي، في الغالب فارغة، وحولها تتطاير أكياس وتترامى قنينات وأعقاب سجائر وأشياء أخرى؟ .
إن المقاربة الحقيقية لمثل هكذا اختلالات في السلوك التربوي للمواطن، لا سيما الأجيال الصاعدة التي يَستهلِك وعيَها مناخ حقوقي غير صحي وغير ناضج ولامسؤول، ينبغي أن تستأصل الأورام من بؤرها، وفكرة حارس الحديقة إجراء غير مجد، نحن بحاجة إلى أن يكون لدى كل مواطن حارس في دماغه، ومنبِّه صارم يضبط سلوكه داخل المناطق الخضراء، هنا نُسَائِلُ دور الأسرة والمدرسة والجمعيات المواطِنة في صقل شخصية وسلوك من يتحملون واجب كونهم مواطنين داخل رقعة هذا الوطن. علينا أن نفكر في تدبير الوعي لدى الأمهات اللواتي تحرص، معظمهن، على تنظيف بيوتهن، وتزيينها حتى بالورد الصيني البلاستيكي، وحين يخرجن إلى فضاءات طبيعية رائعة لا يحترمنها، بل يساهمن هن وأبناءهن، في تشويه منظر الفضاء العام بالنفايات التي يلقونها فيه كيفما اتفق.
أكيد أن بقاء هذه الحديقة نقطة مضيئة في المدينة، يعود للأسف لكونها مغلقة، فلو تم فتحها في وجه هذا الصنف من الناس - الذي لا يعرف سوى الحديث عن حقوق المواطن من غير الانتباه لحقوق الوطن والأرض والبيئة- لخُرِّبت وأُبِيدَتْ في أيام معدودات، وصارت عروشها خاليات، لأننا في زمن يملك فيه المتقوِّلون والمستنكرون القدرة على القول وعلى التدمير، أكثر مما يملكون القدرة على الفعل، وعلى البناء. وحري بنا، حين نفكر في بيئة محيطنا، أن نتحرر من كل معيقات حماية الخضرة والنظافة والهدوء والجمال باسم السياسة وما تجر من إديولوجيات صارت توصف بأنها مواقف بليدة من منظور فلسفات ما بعد الحداثة وأدبياتها.
ولو كان بالإمكان تعليق هذه الحديقة في السماء السابعة حتى لا تلقي فيها النساء أزبال نزهاتهن، لكان أفضل... بهذا تلتحق حديقة فجيج المغلقة بحدائق بابل المعلقة.
فلا أروع من تشريفها بدخول عالم عجائب الدنيا السبع!