يفتخر ابن الباشا الصبيحي، وزير الثقافة، بوصول عدد زوار المعرض الدولي للكتاب إلى 340 ألف زائر هذه الدورة. وكأن هذا الرقم فتح مبين يستحق فعلا أن يفتخر به الوزير المشرف على قطاع الثقافة.
وبما أن ابن الباشا الصبيحي يحب الأرقام فلماذا لا يقول للمغاربة كم دار نشر عالمية شاركت في معرضه بين 47 دولة التي كانت حاضرة. ونحن هنا لا نتحدث عن دور النشر العربية، أو المكتبات، التي حضرت، بل عن كبريات دور النشر الأوربية التي لا أحد منها حضر.
وأغلب الدول الأوربية الحاضرة، وحتى لا تلصق بها تهمة المقاطعة، كانت ممثلة بمؤسساتها الثقافية الموجودة بالرباط، وكتبها لم تكن للبيع بل للعرض فقط. لذلك فالأجدى أن يسمي الصبيحي معرض الكتاب الدولي معرض الكتاب العربي، وإلا فإن المعرض يصبح في مقام من ينتحل صفة ليست فيه.
وحتى الذين شاركوا في تظاهرة هذه السنة كعارضين أصبحوا يفكرون جديا في عدم المشاركة في الدورة المقبلة، فالمعرض تحول إلى ما يشبه السوق الذي يستعمل فيه كل عارض مكبرات الصوت لبيع بضاعته. ولعل معرض الدار البيضاء هو أول معرض للكتاب في العالم يمكن أن تعثر في أروقته على باعة متجولين يعرضون لعب الأطفال للبيع.
وأكثر الذين حققوا عائدات مهمة خلال المعرض هم لصوص الجيوب وليس الناشرين، فقد تعرضت منشطة تلفزيونية لسرقة «صاكها»، ولم يجدِها أن تصرخ في وجه اللص «عطيني صاكي»، فقد كان قد تبخر وسط الزحام. وفقد عارض هاتفه المحمول فيما فقد آخر جهاز «الإيباد»، وكانت عارضة كتب أطفال محظوظة عندما تم القبض على اللص الذي سرق منها «صاكها» وتمت إعادته إليها.
ولعل النصيحة المهمة التي نسي منظمو المعرض كتابتها بخط واضح عند مدخله هي «تجنبوا شرب السوائل»، فالعمل بهذا التنبيه كان سيجنب الزوار مغبة زيارة المراحيض.
فمعرض الكتاب، حيث تعرض أطنان من الورق، تفتقر مراحيضه للورق، أما الماء فيمكنك أن تحلم به، إذ لا يوجد صنبور واحد يمكن التعويل عليه عند «الحاجة».
«ولوكان جات على الأرقام» فمن تستحق أن تفتخر فعلا بها هي الداودية، فقد دخل إلى موقع «يوتوب» من أجل مشاهدة أغنيتها «عطيني صاكي» أكثر من عشرة ملايين زائر خلال أقل من شهرين.
فأين هي 340 ألف زائر للمعرض للتفرج على أغلفة الكتب من عشرة ملايين زائر لـ«يوتوب» للتفرج على «صاك» الداودية؟
وبعيدا عن السخرية فإقبال المغاربة بمختلف طبقاتهم على تناقل وتبادل أغاني مثل «عطيني صاكي» و«حك ليلي نيفي» يتطلب دراسة سوسيولوجية عميقة لمعرفة أسباب عزوف الشعب عن القراءة والمعرفة وإقباله على متابعة الأغاني والإنتاجات السخيفة.
فقد انتقل المغاربة خلال العشرين سنة الأخيرة من جيل «اقرأ» إلى جيل «ما أنا بقارئ»، بحيث لا تتجاوز نسبة المغاربة القارئين 2 في المائة، وانقرض عشاق «أعطني الناي وغنِّ» لفيروز و«أعطني حريتي أطلق يدي» لأم كلثوم، لصالح أجيال جديدة ترقص على إيقاع «أعطيني صاكي».
وطيلة عقود ظلت المدرسة العمومية تنتج أشباه الأميين، وتحولت الجامعة إلى بورصة لبيع وشراء البحوث الجامعية وأصبح لتسجيل الأطروحات ثمن ولمناقشتها ثمن. حتى أصبحت الجامعات المغربية خارج ترتيب لائحة أفضل 500 جامعة عالمية.
وخلال هذا الوقت ظلت العائلات نفسها التي تحتكر مقاعد مدارس البعثة الفرنسية هي نفسها منذ الاستقلال وإلى اليوم. وفي لائحة الناجحين في الباكالوريا منذ افتتاح البعثة إلى الآن، والتي ينشرها الموقع الرسمي لمدارس البعثة، نعثر على أسماء أبناء كل وزراء التعليم الذين تعاقبوا على الحكومات المغربية.
وعمليا فقد تم استعمال التعليم العمومي كأداة لعرقلة وصول الطبقات الشعبية إلى مصاف النخبة الفرنكوفونية التي تمتلك الأدوات العلمية لممارسة الحكم، أو على الأقل التواجد في مراكز القرار.
والنتيجة هي أن هناك اليوم في المغرب أزمة هوية عميقة لدى فئة عريضة من المراهقين. وكل عائلة مغربية فيها اليوم مراهق أو مراهقة يجد أولياء أمورهم صعوبة كبيرة في فهمهم ومسايرة متطلباتهم، وأحيانا حماقاتهم.
لقد أصبحت الموضة اليوم بين المراهقين هي أن يقضي بعضهم وقته الثالث في اعتراض طريق التلميذات والتلاميذ وانتزاع ملابسهم وممتلكاتهم تحت التهديد بالسكاكين، فيما يقضي بعضهم الآخر وقته في تصوير أشرطة لأساتذته وهو يسخر منهم أو يهددهم بنشرها بعد ذلك في مواقع التواصل الاجتماعي.
الآباء أصبحوا لا يفهمون أبناءهم وبناتهم، الأساتذة أصبحوا عاجزين عن مجاراة السرعة التي يسير بها إيقاع حياتهم. وبسبب الثورة المعلوماتية صار مراهقو اليوم يعيشون داخل دهاليز «الفيسبوك» أكثر مما يعيشون في بيوتهم. فهم منفتحون على آخر الصيحات في اللباس والرقص والموسيقى، ووجها لوجه أمام وعاظ وأئمة وأنصاف علماء يصدرون الفتاوى أكثر مما يتنفسون الهواء.
ما سبب كل هذه العصبية والعدوانية التي أصبح جيل اليوم يعبر عنها في البيت والشارع والقسم؟ وهل لذلك علاقة ما بالحليب الذي رضعوه في طفولتهم؟
بمناسبة الحديث عن الحليب تنظم هذه الأيام وزارة الصحة أسبوع الرضاعة الطبيعية لتشجيع الأمهات على الاستغناء عن حليب الصيدليات وإعطاء أبنائهن «البزولة».
وحسب كل الدراسات العلمية، فإن إلقام الثدي للرضيع يساهم بشكل كبير في محاربة سرطان الثدي، وترجع النسبة الكبيرة لإصابة النساء المغربيات بهذا النوع من السرطان إلى امتناعهن عن إرضاع أطفالهن وتعويض ذلك بحليب الرضاعة الاصطناعية.
ولذلك نرى كيف أن سرطان الثدي بدأ في الانتشار بكثرة منذ ظهور الحليب الاصطناعي وشيوع ثقافة المحافظة على أثداء النساء من التهدل بسبب الرضاعة، انسجاما مع تعاليم المنظمات النسائية العالمية التي كانت ترى في هذه المهمة حطا من قيمة المرأة العصرية التي يحق لها أن تعوض حليب ثدييها بحليب الصيدليات حفاظا على مظهرها.
وتبقى مبادرة وزارة الصحة على عهد «الميني شيوعي» الوردي محتشمة بالنظر إلى المبادرة التي كانت وزيرة الصحة ياسمينة بادو قد أطلقتها عندما نادت بخلق أماكن في العمل لإرضاع الموظفات لأطفالهن.
ولم تكتف الوزيرة السابقة بهذه الفكرة، بل إنها طالبت بتخصيص مواقع في الأماكن العمومية لكي تمارس فيها الأمهات الرضاعة الطبيعية.
وكأن وزيرة الصحة لا تعرف أن الأماكن العامة في المدن المغربية لا تتوفر حتى على أماكن للعب الأطفال فبالأحرى أن تتوفر على أماكن خاصة بإرضاعهم. وهناك أماكن عامة لا توجد فيها حتى الكراسي. أما المراحيض العمومية فلا زالت ضربا من الخيال العلمي، وإذا فاجأت المرء حاجة مستعجلة من حوائجه الخاصة، فما عليه سوى أن يقصد أقرب مقهى وأن يطلب من الله أن يكون «زكروم» باب المرحاض غير مغلق بالقفل.
وقبل أن يذهب خيالكم بعيدا فيجب أن تعرفوا أن هناك علاقة وطيدة بين حليب الأم وجينات العنف عند الأطفال.
والفرق واضح بين أبناء «البزولة» وأبناء «الرضاعة»، فحسب دراسة لمعهد كارولينسكا في السويد، فالرضاعة الطبيعية تقلل من التوتر لدى الأطفال عند مواجهة المشاكل في الكبر، عكس ما هو سائد لدى الأطفال الذين يتلقون رضاعة بحليب «الطارو».
في السبعينيات والثمانينيات كان الشباب عندما يغادر ملعبا لكرة القدم يفعل ذلك بهدوء سواء انتصر فريقه أو انهزم، أما أبناء اليوم فيغادرون الملاعب مثل جيوش الهيكسوس لكي يدمروا كل شيء في طريقهم سواء ربح فريقهم أو خسر.
في السابق، كان الأطفال يرضعون حليب أمهاتهم، واليوم أصبحوا يرضعون حليب الصيدليات، وهكذا نشأ لدينا جيل من العصبيين والغاضبين والمتوترين، جيل «على سبة» يشتعل لأتفه الأسباب، وكأنه رضع مكان الحليب مادة الكبريت.