غريب ما يحدث لوزير العدل والحريات مصطفى الرميد. أعطيناه أسماء القضاة والموظفين القضائيين الذين حكموا بالإفراغ على مواطنين من مساكنهم ثم اقتنوا شققهم بعشرة ملايين للشقة في قلب الدار البيضاء، وعوض أن يفتح الوزير تحقيقا في الموضوع ويعاقب هؤلاء إذا ثبت استغلالهم لنفوذهم من أجل التربح وتملك عقارات، رأينا كيف عاقب قاضيا بتوقيفه مؤقتا بسبب فضحه للفساد المستشري في محكمة بالعيون.
سعادة وزير العدل نسي أن هناك التزاما على عاتق الدولة يجبرها على حماية الشهود والمبلغين عن الفساد، حسب ما تنص عليه اتفاقية محاربة الفساد. وهي الاتفاقية التي لم تحترم بنودها لا في قضية قاضي محكمة العيون ولا في قضية السيدة خديجة أعنا، التي أطاحت بنائب الوكيل العام وقاض بمحكمة الاستئناف بالرشيدية، بعدما ورطتهما في فخ الارتشاء وسجلتهما.
والظاهر أن العامل المتحكم في القضيتين معا هو الانتقام والتغطية على الفضيحة، وليس إحقاق العدالة ومحاربة الفساد. فقاضي محكمة العيون تعرض لعقوبة الرميد ليس لأنه ضبط في حالة ارتشاء، بل لأنه جاهر بفضحه للفساد الذي اعترف بوجوده مسؤولون قضائيون في محكمة العيون، بعظمة لسانهم في الشريط المسجل الذي وضعه القاضي في صفحته بـ«الفيسبوك»، والذي أرسله إلى وزير العدل قبل مدة دون أن يتخذ بشأنه أي إجراء.
أما سيدة الرشيدية فقد رأت حكما ضدها بثلاثة أشهر في الابتدائي يتحول إلى خمس سنوات في الاستئناف، بتهمة ثقيلة هي محاولة إضرام النار. والمدهش أن الهيئة التي أصدرت الحكم توجد في الرشيدية، أي المحيط القضائي الذي لدى السيدة خلاف مع مسؤوليه ورؤسائه. والمدهش أكثر أن السيدة اضطرت للاستعانة بمحام من هيئة مراكش بعدما رفض محامو هيئة الرشيدية الدفاع عنها.
وقد كان أولى، ضمانا لشروط المحاكمة العادلة، أن تنقل محاكمة هذه السيدة إلى مدينة أخرى ليس للمتهمة نزاع أو شنآن مع أحد قضاتها، لا أن توضع حريتها تحت رحمة هيئة قضائية دخلت مع بعض عناصرها في خصومة معلنة، انتهت بتوقيف نائب الوكيل العام وقاض في نفس المحكمة.
وهذا الملف يذكرنا بملف رقية أبو عالي التي صورت فساد جهاز القضاء بمكناس، فكان جزاؤها الانتقام منها بسجنها بتهمة ملفقة حصلت بعدها على حكم البراءة.
ولعل الأمر الخطير في ملف قاضي العيون، هو أنه يتوفر على تسجيلات بصوت وزير العدل يعترف فيها هذا الأخير بوجود فساد في محكمة العيون، وأنه لا يستطيع أن يفعل شيئا بسبب حساسية المنطقة. وكأن سعادة وزير العدل لم يستمع إلى الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى التاسعة والثلاثين للمسيرة الخضراء، عندما تحدث الملك عن النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية، الذي يروم وضع قطيعة مع نمط التدبير المحلي السابق، من أجل إنصاف كل أبناء الصحراء، وإنصاف الأغلبية الصامتة المؤمنة بوحدة الوطن.
أليس من حق أبناء الصحراء أن ينعموا بثمار إصلاح العدالة الذي يبشر به وزير العدل منذ أكثر من ثلاث سنوات؟
ألا يستحق أبناء الصحراء مسؤولين قضائيين نزهاء ومستقيمين لا ترقى إليهم الشبهات؟ وإذا ظهر ما يثبت وجود فساد في محاكمهم، ألا يستحقون أن ينال هؤلاء المسؤولون العقاب ذاته الذي يناله مسؤولون قضائيون في مختلف محاكم المملكة؟
عندما نعيد الاستماع إلى الشريط المسجل الذي نشره قاضي العيون في صفحته بـ«الفيسبوك»، نصدم عند سماع مسؤول قضائي في المحكمة ذاتها «ينصح» القاضي المبتدئ بضرورة التحلي بالحكمة وبرودة الدم، وذلك بابتلاع قرارات ليست دائما صائبة. أي ببساطة فإن المسؤول القضائي «المجرب» يطلب من القاضي «البوجادي» الذي فضح الفساد بالعلالي، أن يتعلم «التعايش» مع الوضع القائم عوض الثورة عليه والمطالبة بتغييره.
وهذا «الاقتراح» يسير في الاتجاه نفسه الذي سار فيه اقتراح وزير العدل، والذي طلب من القاضي أن يختار أية محكمة يريد الذهاب إليها وما عليه سوى أن ينقله إليها فورا.
وهذه فضيحة أخرى تنضاف إلى تجاوزات الوزير، الذي أبدى استعداده لكي يتخذ قرار تنقيل القاضي بسرعة البرق، علما أن التنقيلات والترقيات يبت فيها المجلس الأعلى للقضاء.
من حيث الموضوع، فوزير العدل متفق مع القاضي حول نزاهته وأيضا حول أن هناك فسادا في محكمة العيون، وعوض أن ينزل العقاب بالمفسدين اختار أن ينزله بالقاضي النزيه، لأن هذا الأخير أخل بالوقار حسب الوزير، عندما ضرب «الطر» لسعادته على صفحته بـ«الفيسبوك»، ولم يترك الأمر سرا بينه ومعاليه، فأصبحنا نسمع من يروج عن القاضي بأنه مصاب بخلل عقلي أو يعاني من مشاكل نفسية.
هنا يصبح الشكل أهم من الجوهر، يصبح الجهر بالمنكر إخلالا بالوقار، وهو الوقار ذاته الذي لم يحفظه الوزير للقاضي عندما اتهمه كتاب الضبط بذات المحكمة عبر نقابتهم بفساد ذمته المالية، كما يصبح الفساد القضائي المعترف به على مستوى الوزير، واقعا يجب التعايش معه نظرا لحساسية المنطقة.
وهكذا ففي الوقت الذي تسعى الدولة إلى إدماج الصحراء في التنمية الشاملة التي تعرفها المملكة، نجد أن هناك من لازال يسعى إلى اعتبار هذه المنطقة استثناء يجب أن يبقى في منأى عن مشاريع الإصلاح الكبرى التي أعطى الملك شخصيا انطلاقتها، والتي يعتبر مشروع إصلاح القضاء أبرزها.
الحقيقة أن وزير العدل والحريات مغلوب على أمره، فهو لم يستطع أن يحارب الفساد حتى داخل وزارته وحول جنبات ديوانه، فكيف سيستطيع محاربة الفساد في أطراف الصحراء. وعوض أن يتحمل الوزير مسؤوليته ويتخذ إجراءات صارمة ضد مديرية الموارد البشرية بالوزارة، وضد كل من يتلاعب في التعيينات بمناصب المسؤولية في المحاكم، ها نحن نتابع لعبة «كرة الطاولة» بين وزير العدل وأخيه في الحزب محمد يتيم، زعيم الذراع النقابية للحزب الحاكم.
ففي بيان ناري وصف يتيم وزير العدل بعمر بن الخطاب، بعدما ألصق به صفة «العمرية»، مهددا بمواجهة كل المسؤولين بوزارة العدل الذين يستغلون نزاهة وزير العدل و«عمريته» من أجل الاستفادة من الفساد أو الريع النقابي.
واضح من خلال لغة البيان، الذي وضع سعادة الوزير في مصاف الصحابة، أن يتيم يريد أن يبرئ ساحة زميله الوزير، ملقيا باللائمة على مسؤولين أشباح لم يجرؤ زعيم النقابة على تسميتهم بأسمائهم الحقيقية.
فالوزير، حسب بلاغ زميله في الحزب، «عمري» يتحلى بصفات التابعين، وهو نزيه يسعى إلى إقامة العدل. فهل سمع سعادة الوزير «العمري» بما قاله عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وهو يستحضر جسامة المسؤولية الملقاة على عاتقه «لو عثرت بغلة في العراق لسألني الله تعالى عنها لِمَ لَمْ تمهد لها الطريق يا عمر؟».
فلماذا لم نسمع وزير العدل «العمري» يقول، عندما أطلعه قاضي العيون على الفساد المستشري في محكمته، «لو علمت بالفساد في محكمة العيون فأخشى أن يسألني الله لِمَ لَمْ تقم العدل بها يا مصطفى؟».
إن أحسن خصلة يجب أن يمتاز بها وزير العدل، هي أن يقبل النصيحة وأن يشكر من يدله على عيوبه، عوض إشهار سوط العقوبات ضده وتسليط السفهاء إثره لكي يسلقوه بألسنة حداد.
أليس الفاروق عمر بن الخطاب هو القائل: «رحم الله امرئا أهدى إلي عيوبي»؟
«غي جي وكون عمري».
وقد ذكرني لقب «العمري» الذي منحه يتيم لزميله في الحزب مصطفى الرميد، بتلك النكتة التي تقول إن أحد المواطنين ذهب لكي يسجل ابنه في الحالة المدنية، وعندما سأله الموظف عن الاسم الذي اختار لابنه، قال له إنه اختار له اسم عمر بن الخطاب.
فأجابه الموظف بأن هذا الاسم لا يوجد في قائمة الأسماء المسموح بها، فما كان من المواطن سوى أن مد إليه بورقة نقدية من فئة مائتي درهم دسها في جيبه، وقال له باسما:
– تبغي نزيد ليه رضي الله عنه ولا نخليها غي عمر بن الخطاب؟