نحن إذن أمام تناقض، فبمقابل نفخ الريش على المدرسين نجد عجزا تاما على مواجهة طوفان التعليم الخصوصي، والذي يجسد أكبر ضرب لمبدأ تكافؤ الفرص.
فإذا كان المدرس الذي يبتز تلامذته بالنقط ليكونوا زبائن له في ساعاته الإضافية، شخصا لا يستحق أن يحمل صفة مربي، بل ويعتبر عالة على قطاع التعليم، لذلك يجب متابعته «زنقة زنقة»، فإن الذي يفوت أيضا صفقة بعشرات الملايين لصديق له، أو يضع مذكرة للحصول على منصب على مقاس «ولد بلادو» أو «ولد عائلتو أو نسيبو» هو أيضا يعتبر عالة على القطاع ويجب محاربته «مكتب مكتب» و«مصلحة مصلحة» و«مديرية مديرية».
لقد لاحظنا أنه منذ مجيء بلمختار وهو لا يفوت فرصة تمر دون أن ينتقد ويهاجم المدرسين، وعندما يُسأل عن البديل يجيب أنه لا زال يفكر فيه، وها هما سنتان مرتا والرجل ما يزال ينتقد من أجل الانتقاد دون أن يقدم بديلا، فنستنتج إذن أن الموضة الجديدة في الوزارة هي تحميل المسؤولية للحلقة الأضعف في المنظومة التربوية، وهو رجل التعليم، بسبب تشرذم النقابات وضعفها وانشغالاها بحسابات الأحزاب التابعة لها.
إن مشكلة قطاع التعليم أكبر من أن تنسب للمدرسين وحدهم، لأن المنظومة التي استقبلت عشرات الآلاف من المدرسين في حكومة عباس الفاسي، دون أن يستفيدوا من التكوين المباشر هم في الحقيقة ضحايا وليسوا مسؤولين. فالإدارة، أي إدارة، تعتبر مسؤولة أولا وأخيرا عن تطوير كفاءة العاملين بها، لذلك فالمشكلة في عمومها مرتبطة أساسا باستئساد ذهنيات غير جيدة على مختلف مستويات المنظومة التربوية.
ولا تشكل الوزارة في حد ذاتها استثناء، بدءا من المدرس، مرورا بالإدارة التربوية والإشراف التربوي، وصولا إلى المسؤولين الإقليميين والجهويين والمركزيين. فعندما يدمن بعض المدرسين، وهم الذين قضوا في التدريس ما يفوق العشرين سنة، على الحديث عن انحدار المستوى المعرفي والأخلاقي للمتعلمين، أليس من البديهي أن تكون لهم مسؤولية في هذا الوضع؟
وعندما يكتفي بعض المدرسين بمستواهم المعرفي الذي تلقوه منذ أيام «اللوحة والدواية»، ولا ينتبهون لضعف تكوينهم وعدم مواكبتهم للمستجدات البيداغوجية إلا أياما قبل الامتحانات المهنية، للسعي لترقية دخلهم المادي لا لترقية ممارساتهم الفصلية، وعندما يستغل بعض هؤلاء حالة التسيب النقابي فيقررون خوض إضرابات مع جميع النقابات، بغض النظر عن هويتها أو مطالبها، وعندما لا يهتم البعض الآخر بجودة تدريسهم في فصول المؤسسة العمومية، اللهم إلا في المرائب التي حولوها إلى فصول للتعليم الخاص ليدرسوا نفس متعلميهم في التعليم العام، حيث المنافسة مع إخوانهم من تجار العلم، ألا يعتبر كل هؤلاء مسؤولين عن ضعف جودة التعليم؟
وعندما يختار بعض المفتشين السكن بعيدا عن مقرات عملهم في سُنة سيئة أضحت تميز هذه الفئة من الموظفين العموميين عن غيرهم، ليتفرغ أغلبهم لأعمال مدرة لدخل ثان، مثل السمسرة في السيارات والعقارات والفلاحة، مكتفين بزيارة لمدة ساعة من الزمن في السنة على الأكثر لمدرسين من النوعية سابقة الذكر، بدل البحث والتأطير التربويين المستمرين، وعندما يعمل البعض الآخر على ابتزاز المدرسين الراغبين في الاستفادة من الترقية بالاختيار، بدل أن يكون الإشراف التربوي الحريص الأول على قيمة الإنصاف عندما يقوم الأداء بحسب الكفاية والقدرة لا بحسب الانتماء النقابي أو الحزبي أو حتى العائلي، ألا يعتبر كل هؤلاء مسؤولين عن اختلالات التعليم؟
وعندما يحول بعض مديري الأكاديميات مقرات عملهم إلى قلاع محصنة على غرار قلاع روما القديمة، يحرسها عملاء حراسة خاصة، أوكلت لهم مهمتان، طرح الأسئلة العديدة والجواب الواحد «مكاينش»، بدل التواصل المستمر للمسؤول الجهوي مع الموظفين المشتكين من جور رؤسائهم أو بُعد أسرهم، عندما يعتمد البعض الآخر على سياسة الصناديق السوداء للتغطية على ضعف التسيير، بالاعتماد على الدروب المظلمة التي تميز الصفقات العمومية في هذا البلد، حتى إذا أزفت ساعة التغيير في الوزارة الوصية، فإنهم يعملون على عقد الندوات تلو الندوات تتناول أهمية والحاجة إلى اعتماد الحكامة الجيدة في التدبير، ألا يعتبر كل هؤلاء مسؤولين أيضا عن اختلالات التعليم؟
إن الحل الناجع ليس مراقبة المدرسين حول إضافة الساعات الخصوصية، بل في جملة قرارات تحتاج لشجاعة سواء على مستوى تكوينهم أو القضاء على الاكتظاظ. فلا معنى لأن يحرص الوزير على التكوين الجيد للمدرسين دون أن يعمل على تفعيل المرسوم المحدث للمراكز، وإخراجه القوانين التنظيمية اللازمة لتكون مراكز تكوين حقيقية وفعالة، ولا معنى للقضاء على الساعات الإضافية التي يلجأ إليها الآباء مكرهين وأبناؤهم يدرسون في أقسام مكتظة بما يفوق أربعين أو خمسين تلميذا، ولا معنى لكل هذا إذا كنا سنعتمد على منطق «الخريطة المدرسية» في النجاح، بشكل يسمح بنجاح تلاميذ بمعدل 20/5. ولا معنى لهذا والوزير ورئيس حكومته، يتعاملان بانتقائية واضحة مع المدارس الخصوصية.
وعندما نقول رئيس الحكومة، فليس للأمر علاقة بقصة إسقاط الطائرة في الحديقة، بل فشل رئيس الحكومة في فرض الاتفاقية التي وقعها مع أرباب التعليم الخصوصي، والذين يقودهم أحد أصدقائه المقربين في سلا، على تشغيل خريجي برنامج 10 آلاف مدرس، وهذا دليل على أننا بصدد وزارة وحكومة عاجزتين تماما، ما يطرح في نظرنا مشكلة تربوية عميقة هي: كيف لمدرس يعتبر «غير كفؤ» في التعليم العمومي أن يكون ضامنا للجودة في التعليم الخصوصي؟
فالمشكلة من الناحية التربوية خطيرة جدا، إذ أن أغلب مدرسي هذه المدارس الخاصة هم من التعليم العمومي، لكون المستثمر في هذا القطاع يتعامل بعقلية استثمارية خالصة، تماما كمن يستثمر في أي قطاع خدماتي. فعندما يطلب مجموعة من الآباء مدرسا معينا في تخصص معين، فإن على مدير هذه المدرسة الخاصة العمل على توفيره مهما كان الثمن، والأخطر هو أنه يتم التلاعب بأرقام الموارد البشرية المقدمة للوزارة الوصية. فبحسب القوانين الجاري بها العمل يجب التركيز على مدرسين لا ينتمون للقطاع العام، وإن فعلوا فيجب احترام عدد الساعات المخصصة لكل مدرس وهي في أغلبها ست ساعات أسبوعيا، لكن الذي يحصل شيء آخر تماما .
إننا نتكلم عن آلاف الساعات غير المرخص بها سنويا، حيث يلجأ بعض المستثمرين في هذا القطاع إلى تزوير الوثائق الرسمية المصرحة بعدد الساعات، كأن تجد مدرسا يدرس ست ساعات على الورق، وعشرين ساعة في «النوار»، أما كيف ذلك؟ فإن مديري المدارس الخصوصية يستقدمون عاطلين بعقد عمل يتضمن التدريس لـ24 ساعة مثلا في حين أنهم يدرسون 8 ساعات فقط، والباقي يعطى لمدرس عمومي، بل ومن المدارس من تضع فاتورة خاصة للدعم التربوي مع أنه من الناحية التربوية الخالصة فهو جزء من عملية التعليم ككل تماما كما الامتحانات. وفي المحصلة يتحول التعلم والتكوين من هاجس اجتماعي خاضع لاستراتيجية الدولة، إلى هاجس أسري خاضع لجشع المستثمرين في المعرفة. إذن أين النزاهة وتكافؤ الفرص آلسي بلمختار؟
وفي تقديرنا الشخصي، لا يقف الأمر عند العجز فقط، بل إن رئيس الحكومة متواطئ مع مصاصي الدماء في التعليم الخصوصي، ليس فقط لكونه هو أيضا صاحب مدارس خاصة تتواجد في شارع ابن تومرت بالرباط، وصديقه «السلاوي» الذي يضمن له أصوات سلا من أكبر المالكين للمدارس الخصوصية، بل لأن الأمر يتعلق بسياسة ممنهجة، ومن يعود لخطاب ألقاه بنكيران يدعو فيه الدولة إلى رفع يديها عن قطاعي الصحة والتعليم، سيستنتج أن عدم التحكم في التعليم الخصوصي ليس مرده فقط للعجز، بل وأساسا وجود سياسة حكومية واضحة لرمي تعليم أبناء المغاربة وصحتهم إلى «ذئاب القطاع الخاص».