إنها لمن قمة الإنسانية أن يتضامن شعب مع آخر في محنته، رغم تباعدهما جغرافيا، أو عرقيا، أو دينيا. و قبل أن يكون هذا توصية في الأعراف الدولية، أو قبل أن تتبناه المنظمات الحقوقية، فهو طبع و مكوِّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّن في الذات الإنسانية، على أساس أن بني البشر هم كائنات اجتماعية بطبعها، و بالتالي، التضامن و التلاحم فيما بينهم، أقل ما يمكن أن يتصفوا به مهما باعدت بينهم الأماكن و مهما فرقت بينهم الأطماع.
هذه المقدمة في الأساس، هي مدخل لسؤال يطرح نفسه و بشدة حول ما هو ملموس في ساحات الأحداث الواقعية، حيث الملاحظ أن الكل لا يتضامن مع الكل، و أن هناك انتقاء في القضايا الإنسانية التي يساندها البعض. بمعنى آخر، هناك فرز يَستند إلى خلفيات معينة، ما هي في الأصل إلا جغرافية، عرقية أو دينية، أي نفس العناصر التي قد تجمع بين البشر في محل، نجدها تفرقهم في محل آخر.
السؤال المباشر هنا: لماذا تدعم جهات معينة (شعبا كان أو تنظيما) قضية شعب و لا تتحرك حُيال أزمة إنسانية في مكان آخر؟
التطرق إلى إحدى مقولات فقيد القضية الأمازيغية، المناضل المتمرد "معتوب لوناس"، سيكون خير مدخل لهذا الموضوع، وهي في الأساس، محركي لكتابة هذه السطور. "معتوب لوناس"، الفنان الذي جعل من كلماته رصاصات في وجه نظام بلده (الجزائر) و كل نظام جائر، جاءت مقولته في آخر عبارة ختم بها إحدى رسائله/أغانيه الموجهة إلى (سَيدي الرئيس)، إذ يقول : "أشعر أني مواطن كل الشعوب المضطهدة".
هذه مقولة تحدَّتْ كل حدود وهمية فرقت البشر، و تجاوزت كل عرق قََوَّى العصبية الذاتية، و تخطت كل دين جارت باسمه السلطة. مقولة وضعتنا أمام طبيعة تظاهرات المجتمع المدني و جعلتنا نستخلص أن كل القضايا، ليست مادة دسمة تستحق عناء التظاهر و بح الحناجر من رفع الشعارات.
أليس غريبا مثلا أن قضيتا "بورما" و "إفريقيا الوسطى" لم تحركا جوارح التنظيمات الحقوقية و لو في وقفة نكرة؟. و "كوردستان" و "القبائل"، لما لا نجد خطابات تشير إلى ما يُقاسِيانه من ويلات؟ أليس هذا الصمت صوبَهما هو حسابات من نوع آخر قد تتعارض و سياستنا الخارجية .. أو ربما الداخلية.. لا أدري ... فنَستكين إلى المَثل الشعبي :"بْلا ما نْجْبْدو عْلينا النّْحْل". بشرح مستفيض، هذين الإقليمين يطالبان بالحكم الذاتي لأسباب عرقية أساسا، و هذا شبيه بوضع الأمازيغ عندنا، و في حالة تسليط الأضواء الكاشفة عليهما إعلاميا، فهذا سيحفز الأمازيغ أكثر و قد تتقوى شوكتهم! فمن الأفضل إذن تجاهلهما، رغم أنهما يعيشان ويلات استلاب الهوية، التصفية العرقية و الجسدية و طغيان الأنظمة!
في نفس السياق، نتساءل لما لا تلقى القضية الأمازيغية آذانا صاغية أو أصوات متضامنة في الشرق الأوسط أو في بلدان إفريقيا مثلا؟ أكيد لأنها لن تخدم مصالحهم الخارجية مع أنظمة شمال إفريقيا، رغم أن الشعب الأمازيغي صاحب حق كيفما كانت طبيعة هذا الأخير، و مطالبه شرعية باسم السماء و باسم القوانين الوضعية الكونية!
نعود للسطر ونعرج قليلا إلى بيت المقدس، لنجد أطرافا تتعارض و التضامن مع القضية الفلسطينية بدعوى أنها قضية مفتعلة، بات الكل يسترزق منها حتى أهلها، و بأن قضايانا أولى بالالتفات إليها. رأي يحترم لأنه صحيح، لأننا كلنا نعلم أن بلدان الجوار هي أكبر مستفيد من النزاع الفلسطيني/"الإسرائيلي"، لكن هذا لا ينفي أن هناك أزمة احتلال و أن المجازر المرتكبة في حق الشعب الفلسطيني هي حقيقة لا فبركة إعلام، و بالتالي يستحق كل التضامن و الوقوف على قضيته بعيدا عن السادة و القادة المستجمين في الفنادق و المنتجعات.
من خلال ما تقدم، نجد أن مقولة "معتوب لوناس" و للأسف، لم تجد لها صدى في أرض الواقع، و أن المنادين بحقوق الإنسان و الشعوب، يُقرونها على طرف و يُنكرونها على آخر، و هذا طبعا خدمة لأغراض في نفس يعقوب. و إذا حاولنا النظر في حقيقة الأسباب التي تجعل البعض لا يتعاطف مع بعض القضايا، نستنتج أنها إما أسباب سياسية قضية "كوردستان" و "القبائل" بما أنهما تطالبان بالحكم الذاتي، أو أسباب ذات خلفية دينية إسلامية كمحارق "بورما" و مجازر "إفريقيا الوسطى"، و كذا بالنسبة لفلسطين، مع اختلافٍ فارقٍ هنا، وهو أن سماسرة القضية الفلسطينية هم عرب أذكَوْا الصراع، مستغلين فيه الدين لتأجيج الخواطر أكثر و حتى يسترزقوا منه أكثر فأكثر.
و لكن إن أمعنا النظر جيدا، سنفهم أن الدين ما هو إلا مطية في كل هذه النزاعات، بغض النظر عن وجودٍ فعلي لأعداء الإسلام، إلا أنه يبقى ورقة رابحة من طرف الأنظمة و اللوبيات، و كلما اشتعلت منطقة ما، كلما انتعشت تجارات و صفقات منها أساسا تجارة السلاح.
الفيلسوف المغربي "طه عبد الرحمان"، له كلام موزون في هذا السياق حيث يقول : "الأصل في الخصام، خلافا للرأي السائد، ليس الدين، و إنما السياسة". و بالفعل، ما الإسلام السياسي إلا أحد الأدلة، و ما تأليهُ الفرعون إلا لأسباب سياسية و لإشباع أطماعه السلطوية البعيدة عن الروحانيات بُعد السماء عن الأرض.
نعود للتضامن بعد هذا المنعرج اللازم و نتساءل : أين محبي "معتوب لوناس" من مقولته؟ و هل يعشقونه حد التقديس و القََسَم باسمه أحيانا، ليأخذوا بعض كلامه و يتركوا بعضه؟ هل أصبحنا في زمن بشع، نتبع فيه مُثُلا و نترك أخرى و لو على حساب آدميتنا؟ ما حجم الضرر المتَخَيل لو كنا فعلا مواطني كل الشعوب المضطهدة و لو تجاوزنا الحدود و العُمُلات و القِبلات و الكراسي؟ و لو كان "معتوب" على قيد الحياة، هل كان سيبقى مؤمنا بفكرته أم كان سيختار أيضا بين قضايا الشعوب، على أساس أن "لكل عصر آذانه"؟! على أي، سيبقى هذا في علم الغيب بما أنه لم يعد بيننا، و نبقى نحن أصحاب أمانة أمام أنفسنا، و أصحاب مسؤولية أمام ذاك الآخر المقهور، المنبوذ، المنفي أو المقصي .. حتى نتكلم بلسانه و عن حاله، مادمنا شيئا ما خارج دائرة صراعه، و ما دمنا قادرين على إيصال أصواتنا عنه بطرق ما، مادمنا مؤمنين بأن الإنسان واحد لا يتجزأ، و بأن الكل له حق العيش وفقا للكرامة و العدالة و الحرية، بعيدا عن مُعيقات قد تسلخنا من ذواتنا و أحاسيسنا الآدمية.