إذا كانت الفيضانات الأخيرة التي ضربت الجنوب المغربي، وعددا من المدن الداخلية، قد خلفت مآسي وكوارث خطيرة وراءها، فإنها أيضا خلفت نقطتين إيجابيتين على الأقل، الأولى أنها تسببت في ملء حقينة السدود ووفرت لجهة سوس مثلا احتياطيا مائيا يكفي لثلاث سنوات مقبلة بعدما كانت المنطقة مهددة هذا العام بالجفاف.
أما النقطة الثانية والمهمة، فهي أنها نبهت الحكومة، وخصوصا وزارة الداخلية، إلى أهمية وجود جهاز للوقاية المدنية متيقظ ومتحفز ولديه وسائل التدخل، والأهم من ذلك، لديه القدرة على استشعار الخطر البيئي قبل أن يحدث ويتحول إلى كارثة إنسانية تترتب عنها عواقب وخيمة على الاستقرار السياسي.
اليوم، وبالنظر إلى عجز الوقاية المدنية عن التدخل في الوقت المناسب لإنقاذ ضحايا الفيضانات، الذين شاهدنا بعضهم يحملون في شاحنة لنقل الأزبال عوض سيارات إسعاف الوقاية المدنية، نكتشف زيف شهادة «الإيزو» التي طار الجنرال اليعقوبي، المفتش العام لهذا الجهاز، إلى سويسرا من أجل تسلمها لتبييض سيرته التي علاها غبار انهيار عمارة بوركون.
ويبدو أن الوقت حان لإعادة النظر في هذا الجهاز الهام والحساس، الذي تعول عليه الدولة لإنقاذ المدنيين في حالة الكوارث. فقد أظهر الجنرال اليعقوبي عجزه المزمن عن تطوير الجهاز وإعادة هيكلته وفق أحدث وسائل التدخل والإنقاذ، عوض تلك «القنانب» التي تتمزق والتي رأيناهم يحاولون بها انتشال سيارة الزايدي من ضاية صغيرة، أو ذلك «المكدي والمطرقة» اللذين رأيناهم يحاولون بهما تكسير حيطان البيوت المحطمة في عمارة بوركون.
ولن نتحدث عن الملفات المطمورة بعناية داخل «الروضة المنسية» للوقاية المدنية، مثل ملف الشهادات المزورة الذي «يغمل» في مكتب الوكيل العام بفاس، وملف المستودعات والمخازن المتلاعب فيها، وملف صفقات العتاد المستورد من كندا.
لقد استبشرنا خيرا عندما فتح السيد إدريس الضحاك ملف الجمعيات الخيرية والاجتماعية، لكننا لا نفهم لماذا عندما وصل إلى الجمعية الخيرية لرجال المطافئ لم يكشف عن أي رقم بخصوصها. أليس من حق دافعي الضرائب أن يعرفوا كيف تم صرف أموال هذه الجمعية منذ 1996 تاريخ تعيين اليعقوبي، إلى اليوم؟
وزير الداخلية محمد حصاد يعرف الفساد الذي يوجد في الوقاية المدنية، وقد عايش حالات منه عندما كان واليا على طنجة ووقف نافذون في الوقاية المدنية بالمدينة ضد مشاريع كان يؤشر عليها الوالي دون الأخذ برأي الوقاية المدنية.
غير أن السيد حصاد عندما أصبح وزيرا وصيا مباشرا على قطاع الوقاية المدنية، أغلق هذا الملف ولم يعد لإثارته.
واليوم جاءت الفيضانات لكي تطير بالوزير إلى الجنوب، لكي يقف بنفسه على ضعف البنيات وهشاشة وسائل الإنقاذ وانعدامها في بعض المناطق.
إن الدرس الكبير الذي يجب استخلاصه اليوم هو أن ما وقع سيقع مستقبلا، وربما بوتيرة أكبر وأعنف. وما وقع عندنا وقع في فرنسا، غير أن الفرق بيننا وبينهم يوجد في سرعة الإنقاذ ونجاعة التدخل وتوفر المعلومة المناخية المضبوطة والتواصل مع المواطنين.
نحن في المغرب لازلنا نعتقد أن الأمطار ستأتي في موعدها والصيف سيأتي في موعده، والحال أن الساعة المناخية للعالم تغيرت رأسا على عقب.
ولذلك فأحد أكثر الأيام التي تمر في المغرب «حسي مسي» هو اليوم العالمي للبيئة.
ومن الطبيعي أن يمر هذا اليوم في المغرب بشكل عادي جدا، فالجميع، حكومة وشعبا، يتجاهلون خطورة الوضع البيئي في المغرب حاليا، ويتعامون عن رؤية الكارثة البيئية المحققة التي يسير نحوها المغرب بخطى ثابتة.
ولذلك أيضا فمن الطبيعي أن تخلو كل برامج الأحزاب السياسية الكبرى المتصارعة حول كعكة الانتخابات، من أية فكرة أو برنامج أو مخطط لحماية المجال البيئي من عبث الرأسماليين الباحثين عن الثروة، ومن جشع المقاولين، ومن تساهل الدولة مع هؤلاء المجرمين الجشعين الذين يلوثون الهواء والماء.
وتقريبا، كل الوزارات لديها مشروع تطلق عليه «رؤية 2010»، و«رؤية 2015»، إلى غيرها من الرؤى والأحلام التي تصور لنا المغرب كجنة غناء. لكن الرؤية الحقيقية التي يجب أن تقدمها الرفيقة شرفات أفيلال، الوزيرة المنتدبة المكلفة بالماء، المنشغلة بصورها في «الفيسبوك»، وحكيمة الحيطي، الوزيرة المنتدبة المكلفة بالبيئة، التي ظهرت في مراكش جالسة في مائدة فوقها خروف مشوي في عز الفيضان، هي «رؤية 2020».
فهذه الرؤية التي ترسم صورة قاتمة للكوارث الطبيعية والبيئية التي تنتظر المغرب بعد سنوات من الآن، هي ما يجب مصارحة المغاربة بشأنه.
والذين سيطيل الله لهم في العمر إلى أن يشهدوا سنة 2020، سيرون كيف سيتحول محيط الرباط والقنيطرة وسلا وكل هضبة بورقراق إلى كثبان رملية. فبسبب تدهور حالة غابة المعمورة، التي تحولت من منطقة «بلاد الدندون» إلى مشارف الرباط إلى زبالة محاطة بالأشجار، ستزحف الرمال من الشاطئ نحو المدن.
سيعرف المغرب بعد ست سنوات، «وما بعيدة غي تادلة» كما يقول المغاربة، ارتفاع درجة الحرارة بدرجة واحدة. وستتراجع التساقطات المطرية بأربعة في المائة، وسيرتفع معدل التصحر في الجنوب والجنوب الشرقي، كما ستعرف التساقطات الفصلية خللا كبيرا.
الماء بدوره سيقل بنسبة خمس عشرة في المائة. والمتهم الرئيسي في هذا الشح المائي هو ملاعب الغولف والفنادق الفاخرة التي يبنيها المستثمرون في القطاع السياحي. وهذا ما أكدته دراسة أوربية صدرت حديثا تقول إن استهلاك فنادق المغرب المصنفة من فئة خمس نجوم تضاهي استهلاك فنادق ألمانيا، بحيث إن كل فندق يستهلك في ليلة واحدة ما تستهلكه عائلة واحدة أربع مرات، كما أن استهلاك مجموع ملاعب الغولف في المغرب من الماء يصل إلى 60 ألف متر مكعب يوميا.
أما الحبوب فستعرف نقصا في الإنتاج يصل إلى خمسين في المائة.
في سنة 2020 سيكون لدينا سبعون في المائة من «المزاليط» يعيشون في العالم القروي، وسيكون لدينا ما لا يقل عن 400 منطقة مهددة بالفيضانات ولا قدرة لها على مجابهتها. وما وقع في الجنوب هذه السنة ليس سوى «الشانطيو» مما ينتظرنا في السنوات المقبلة من غرق.
لدينا في المغرب، كما تعلمنا من خلال درس السدود والأنهار في أقسام الابتدائي، ثمانون سدا، تخزن ما يقرب من عشرة مليارات من الأمتار المكعبة من المياه. المشكلة ليست هنا، المشكلة هي أن خمسين مليون متر مكعب تضيع هباء منثورا بسبب تآكل أرضيات الصهاريج التي تجمع بها هذه المياه، وأيضا بسبب مشكل خطير رأت الوزيرة شرفات أفيلال أن لا تتحدث بشأنه، عندما قالت إن وضعية السدود في الجنوب جيدة، اسمه مشكل التوحل. أي أن نسبة ملء السدود ليست حقيقية. فإذا كان السد سجل نسبة ملء تصل إلى مائة بالمائة، فإن نسبة خمسين بالمائة من السد مملوءة بالوحل، فيما النسبة المتبقية مملوءة بالماء. وتكلفة إزالة الأوحال من السدود باهظة جدا، وهي تقنية أجنبية، إسبانية خصوصا، غير متوفرة بالمغرب.
أما بالنسبة إلى الغطاء النباتي، فإنه يتراجع بنسبة ثلاثين ألف هكتار سنويا.
أما الشواطئ فبسبب رمي مياه الواد الحار والنفايات الطبية والقاذورات فيها، فقد نجحنا في تحويل 28 منها إلى شواطئ غير صالحة للسباحة.
أما بالنسبة للزلازل، فقد رصدت الشبكة الوطنية لمراقبة الزلازل ما لا يقل عن 20.589 زلزالا ما بين 1993 و2003. فيها الذي من ثلاث درجات على سلم «ريشتر» إلى الذي من خمس درجات. هذا، طبعا، دون احتساب الزلازل الارتدادية التي تحدث في رواتب المواطنين كل شهر بسبب الزيادات والاقتطاعات المتتالية في كل شيء. فمثل هذه الزلازل لا تسجل على سلم «ريشتر» وإنما فقط على السلم الإداري.
المثير في هذا التقرير الأسود ليس هو أننا خلال سنوات المقبلة سنواجه كل هذه المصائب، بل المثير والفاضح هو أننا لا نملك استراتيجية واضحة من أجل التدخل للحد من انعكاس نتائج هذه الكوارث على المواطنين.
وزلزال الحسيمة والفيضانات التي ضربت المغرب في السنوات الماضية ومؤخرا بالجنوب، تبين لنا بالملموس أن مسؤولينا غير مستعدين لمواجهة هذه المخاطر البيئية التي تحدق بالمغرب.
لهذه الأسباب مجتمعة، فإن الرؤية التي يجب الانكباب على دراستها والتخطيط لها هي «رؤية 2020» السوداء. وبدون ذلك، فإن كل الرؤى الأخرى، بما فيها الرؤى السياحية والاستثمارية، ستفشل، لأنها ليست مرتبطة فقط بالمناخ الاقتصادي والسياسي، وإنما أيضا بالمناخ البيئي. ويكفي الرجوع إلى التصنيفات التي يحصل عليها المغرب في لائحة الدول من حيث الجاذبية السياحية، لكي نعرف النقط المخجلة التي نحصل عليها في خانة احترام المجال البيئي.
وإذا كانت الحكومات المتعاقبة قد عجزت حتى عن القضاء على «الميكة» ومنع تصنيعها كما صنعت دول أكثر منا تخلفا، فكيف سنطلب منهم التوفر على مخطط استراتيجي لمكافحة الزلازل والفيضانات وبقية الكوارث؟