لا بد أن مستعملي الطرق لاحظوا حماسة رجال الدرك والشرطة الزائدة هذه الأيام لتوقيفهم وتقييد مخالفات مرورية ومطالبتهم بدفع غرامات. وهذا الحماس يصل أحيانا إلى حدود ادعاء مخالفات وهمية، خصوصا بالنسبة للنساء، مثل «دزتي فالحمر»، أو «ضوبلتي فالخط متصول» وغيرها من المخالفات التي تتغلب فيها شهادة شرطي المرور على شهادة السائق. فرجل الأمن «فيه طناشر شاهد».
ولعل أطرف ما سمعته بخصوص تبرير أحد عناصر شرطة المرور لتسجيل مخالفة لسائق أوقفه بسبب حرق الضوء الأحمر، هو قوله للسائق «أسيدي نتا شفتي راسك دزتي من القدام فالليموني، وأنا شفتك من اللور دزتي فلحمر». يعني خلص وإذا كان لديك رأي مخالف بإمكانك وضع شكاية أمام المحكمة الإدارية ضد الشرطي بتهمة الشطط.
والواقع أن رجال الشرطة والدرك أصبحوا يبدون صرامة أكبر في تطبيق القانون، ويجب على المرء إذا كان يريد أن يفلت بجلده، أو جيبه، من أداء مخالفة مرورية أن يكون اسمه عبد الإله بنكيران، فقد اعترف رئيس الحكومة بعظمة لسانه لأعضاء الكتابة الإقليمية لحزبه بأنه ارتكب مخالفة مرورية وأن الشرطي رفض تحرير مخالفة له عندما تعرف عليه، وأنه ذهب إلى حال سبيله بدون دفع مبلغ المخالفة.
لسوء حظ المواطنين أنهم ليسوا جميعهم مثل عبد الإله بنكيران.
والواقع أن رجال الشرطة والدرك بدورهم مغلوبون على أمرهم، فالتعليمات تأمرهم بضرورة تعبئة أوراق «كناش» المخالفات، وهم لا يطالبون بأكثر من التوصل بتعويضات الساعات الإضافية التي تتضاعف مع الحملات الموسمية.
وفي معجم شرطة المرور، هذه الحملات يطلقون عليها الحملات التمشيطية، فيما يرى المواطنون أنها في الواقع حملات «تكشيطية». وبسبب خواء الخزينة العامة، فإن التعليمات واضحة لجميع المصالح المختصة في تحصيل الضرائب والغرامات والمخالفات التي تعيش بها الدولة، وبما أن المغاربة شعب يجد لذة غريبة في خرق القانون فإن الدولة وجدت في هذه العادة السيئة كنزا لا يفنى، ففي سنة واحدة جمع رجال الدرك والشرطة للدولة من وراء مخالفات مستعملي الطريق 100 مليار.
الدولة إذن بحاجة إلى «الكاش»، فالصناديق شبه فارغة.
جميل إذن أن يحرص رئيس لحكومة على تقليص النفقات، والأجمل سيكون هو تعميمه لهذا الحرص على الجميع، بما في ذلك حكومته التي «يبرعها» في الفنادق الفخمة على حساب دافعي الضرائب، وبما في ذلك أيضا مدراء ورؤساء مصالح وزارة المالية ومديرية الضرائب وإدارة الجمارك والخزينة العامة للمملكة. هؤلاء الموظفون الكبار الذين يتقاضى أقلهم تعويضا سنويا يتراوح ما بين 250 و300 مليون سنتيم اسمه «التعويض عن الكتلة» أو ما يسمونه بالفرنسية «prime de masse» ، وهي منحة تعطى للمدراء ورؤساء المصالح في الإدارات التابعة لوزارة المالية، أي للمكلفين بجمع مستحقات الخزينة من الجمارك وضرائب المواطنين والشركات. وبقدر ما ارتفعت كتلة الضرائب المحصلة يرتفع حجم هذه المنحة.
وفي أوربا وأمريكا عندما اندلعت الأزمة الاقتصادية، كان أول شيء وجهت نحوه أصابع الاتهام هو المكافآت السخية التي يحصل عليها كبار البنكيين ومدراء البورصة. حتى إن الرئيس الفرنسي والأمريكي أعلنا في خطبهما قرار حذف هذه المكافآت ومحاربة «المظلات الذهبية» لكبار الموظفين الذين يمتعون أنفسهم بمنح خيالية عند مغادرتهم لمناصبهم.
هذا طبعا في القطاع الخاص. أما عندنا في المغرب فالمظلات الذهبية والتعويضات الخيالية والرواتب المجزية توجد في القطاع العام الذي تخرج ميزانيته من جيوب دافعي الضرائب. والمغاربة لا يعرفون أنهم إلى اليوم يدفعون من جيوبهم رواتب عشرات الوزراء الذين تعاقبوا على حكومات وبرلمانات المغرب منذ الاستقلال وإلى اليوم. ثمانون منهم لازالوا على قيد الحياة، وعشرون منهم انتقلوا إلى دار البقاء وتتولى زوجاتهم التوصل بمبلغ 37 ألف درهم كل شهر.
والمغرب هو الدولة الوحيدة في العالم ربما التي تدفع من أموال الشعب راتبا لوزرائها مدى الحياة حتى ولو قضوا في الحكومة شهرا واحدا. وإذا ماتوا ترث زوجاتهم رواتبهم من بعدهم. ويكفي أن يستخرج الوزير السابق وثيقة من إدارة الضرائب تثبت أن مجموع دخله الشهري لا يصل إلى 37 ألف درهم حتى «تكمل» له الدولة الفرق ليصل إلى هذا المبلغ.
ومنذ أن تم اكتشاف أن أحد وزراء حكومة المرحوم عبد الله إبراهيم انتهى نهاية بائسة في شوارع العاصمة بعد مغادرته للحكومة، تم إعطاء الأمر بتخصيص راتب مدى الحياة لكل وزير يغادر الحكومة حفظا لهيبة رجال الدولة. والشيء نفسه حدث مع الزيادة في رواتب البرلمانيين، خصوصا عندما تناقلت الدوائر العليا تقريرا حول انتشار البق في مجلس النواب بسبب رواتب البرلمانيين البائسة التي تجبر القادمين منهم إلى الرباط لحضور جلسات المجلس على المبيت في فنادق رخيصة وغير مصنفة في المدينة القديمة حيث يعيث البق فسادا. وهكذا انتقل البق من أسرة الفنادق إلى ملابس البرلمانيين لينتهي فوق كراسي مجلس النواب. ومنذ ذلك الوقت والبق «طايح على البرلمان».
وإذا كان الوزراء يتقاضون بعد خروجهم من الحكومة 37 ألف درهم فإن البرلمانيين يتقاضون بعد خروجهم من البرلمان تقاعدا مريحا. وهكذا يتقاضى كل نائب قضى في البرلمان ولاية واحدة راتبا قدره 7.000 درهم، فيما يتقاضى البرلماني الذي قضى ولايتين 8900 درهم. وفيما يدفع من راتبه الشهري ألف درهم لصندوق التقاعد، يتكفل مشغله، أي البرلمان، بدفع ألف درهم أخرى شهريا للصندوق نفسه من ميزانيته التي يأخذها من دافعي الضرائب.
وهكذا، فالمغاربة لا يمولون فقط رواتب النواب البرلمانيين وإنما يمولون أيضا تقاعدهم مدى الحياة.
أليست أحسن وظيفة في العالم هي وظيفة وزير أو برلماني مغربي؟ بلى، بحيث يكفي أن تضع قدميك في الحكومة أو البرلمان مرة واحدة لكي تضمن تقاعدا مريحا مدى الحياة ترثه من بعدك زوجتك وأولادك.
وعوض أن تفكر الحكومة في اقتراح حذف هذه العادة المغربية المكلفة التي تستنزف مالية الدولة، تقترح حذف الزيادة في أجور صغار الموظفين.
وهذا طبيعي ما دام الذين يشتغلون ويكدحون أكثر في المغرب هم أول من تنزل عليه أكثر زرواطة الضريبة.
المطلوب إذن ليس الاقتراض من الخارج أو استنزاف جيوب المواطنين بالضرائب والذعائر لوقف النزيف المالي للدولة. المطلوب توزيع عادل للثروات ومساواة بين جميع المواطنين أمام شباك الضرائب.
وربما تستدعي هذه الأزمة أيضا إعادة التفكير في بعض المشاريع المجنونة والمكلفة التي أطلقتها الحكومة في ساعة سهو، مثل المقر الجديد للوكالة الوطنية للمحافظة العقارية لصاحبه الشرقاوي، والذي كلف أكثر من 100 مليار، والذي «فاز» بصفقة إنجاز تصميمه ابن عمدة الرباط فتح الله والعلو.
عندما تقف دولة أمام أزمة مالية فإن أول شيء تضحي به هو مشاريع الترفيه و«البخ»، حتى تستطيع ضمان الاستمرارية للمشاريع الحيوية الأخرى التي تضمن استقرار البلاد وتوازنها المالي. أما الاستمرار في احتراف سياسة النعامة كما يصنع بنكيران وتطبيق قاعدة «آش خصك آ العريان، لوطيل أمولاي»، فلن يؤدي بنا سوى إلى التهلكة.