يرمي هذا المقال إلى تقديم قرا ءة لسانية نقدية لصيغة الأسئلة المتعلقة بالوضعية اللسانية بالمغرب التي أعدتها المندوبية السامية للتخطيط للإحصاء العام للسكان المزمع تنظيمه في شتنبر المقبل . وأبين في هذا المقال بأن هذه الصيغة تهدف إلى تحقيق نوع من التَّحَكُّم الخِطَابِيِّ في الهويَّةِ التاريخية للمجتمع المغربي، وذلك بتزييف المعطيات حول الواقع اللساني بالمغرب.
التحليل
تستعمل استمارة الحليمي خانتين اثنتين لإحصاء الواقع اللساني المغربي: الخانة 25 التي تستعلم حول "الأمية واللغات" التي تطلب من المُسْتَعْلَمِ أن يحدد ويرمز "اللغات الثلاثة المقروءة والمكتوبة" ثم تطلب منه أن يختار من القائمة التالية: 1ـ العربية، 2ـ الأمازيغية (تيفيناغ)، 3ـ الفرنسية، 4ـ الإنجليزية؛ 5ـ الإسبانية، 6ـ لغات أخرى تذكر.، والخانة 28 التي تستعلم حول "اللغات المحلية المستعملة" ثم تعطي الإختيارات التالية: 0ـ لا شيء، 1ـ الدارجة المغربية، 2ـ تاشلحيت، 3ـ تامازيغت، 4ـ تاريفيت، 5ـ الحسانية.
يعتور هذه الصيغة نوعان من الخلل، يرتبط أولهما بالخانة 28 وثانيهما بالخانة 25. وتندرج تحت كل من هذين النوعين أنواع فرعية سآتي على ذكرها بشيء من التفصيل. كما سأبين بأن الخلل الذي دخل على صيغة الحليمي ليس مجرد خلل مهني أو شكلي بل هو خلل محفَّز بدوافع أيديولوجية واضحة، وهي: الرغبة في التحكُّم الخِطابي في معطيات الواقع اللساني المغربي بما يزيف الهوية التاريخية للمغرب.
الخانة 28
تستعلم هذه الخانة حول "اللغة المحلية المستعملة". إلا أن عبارة "اللغة المحلية المستعملة" تتضمن تناقضا بين عبارة "اللغة" و"المحلية" وتستخدم عبارة "المستعملة" بشكل غامض. أن يكمن هذا التناقض والغموض؟
أولا ـ التناقض : يستعمل اللسانيون مصطلح "اللغة" للدلالة على مجموعة من التنويعات اللغوية المحلية أو الإجتماعية التي تختلف اختلافات غير جوهرية عن بعضها البعض وتشترك في جزء كبير من المعجم والبنى الصرفية والتركيبية. فالأمازيغية، مثلا، لغة تتضمن تنويعات لغوية مختلفة؛ مثل السوسية وأمازيغية الأطلس. والدارجة المغربية هي لغة تتضمن تنويعات لغوية مثل الفاسية والرودانية. لذلك فالإستعلام عن لغات "محلية" هو تناقض في استعمال المصطلحات: تناقض بين عموم مصطلح "اللغة" وتضمنها لتنويعات محلية متعددة، وخصوص وصف "المحلية" وما يدل عليه من تحديد لتنيعات بعينها.
هذا بالإضافة إلى أن التقسيم الثلاثي للتنويعات الأمازيغية إلى تاشلحيت وتامازيغت وتاريفيت تقسيم غير دقيق ما دامت هناك لهجات متكلم بها في منطقة تاريفيت هي أقرب إلى لهجة الأطلس، وهناك تنويعات متكلم بها في الأطلس هي أقرب ما تكون إلى الريفية ، ومادام لا يأخذ بعين الإعتبار تنويعات لغوية أخرى أساسية كأمازيغية الجنوب الشرقي والأمازيغية الزناڭية الصحراوية، التي لا تجد لها مكانا في هذا التصبيف البدائي.
ومن الهفوات الدالة في قائمة الخانة 28 أن الحليمي أنه ذكر تنويعات الأمازيغية ولم يذكر تنويعات الدارجة المغربية: فلماذا لم يقسمها مثلا إلى لهجة الدار البيضاء ولهجة الشمال ولهجة الجنوب؟ أليست هذه "لهجات" محلية مختلفة لنفس اللغة التي نسميها ب"الدارجة المغربية"؟ فما هو الدافع من وراء تجزيء الأمازيغية إلى لهجات والحديث عن الدارجة وكأنها لهجة واحدة لا تعدد فيها؟
ثانيا ـ الغموض: ماذا تقصد صيغة الحليمي بعبارة "المستعملة"؟ لتوضيح أهمية هذا السؤال، لنعتبر السيناريوهين الممكنين التاليين:
السيناريو الأول: أحمد رجل لغته الأم هي الأمازيغية السوسية انتقل إلى مدينة الدار البيضاء حيث يعمل أستاذا للغة الفرنسية. بعد سنوات ترشح للإنتخابات وصار نائبا برلمانيا. يستعمل أحمد الأمازيغية السوسية في بيته مع أسرته، والدارجة مع أصدقائه البيضاويين، والعربية المعيارية في البرلمان، والفرنسية في المدرسة مع تلاميذه. ما هي اللغة "المستعملة" في هذه الحالة؟ كل هذه اللغات الأربعة وظيفية بالنسبة لأحمد، فكيف يحدد ويرمز "لغتين" منها على الأكثر.
لكن لنفترض أننا طلبنا من أحمد أن "يحدد ويرمز" اللغة الأم ولغة العمل ولغة الحياة العامة. إذا فعلنا ذلك، فإن أحمد سيجيب بجواب واضح عن سؤال واضح وسيقول: اللغة الأم: الأمازيغية السوسية. لغة العمل: الفرنسية، العربية المعيارية؛ لغة الحياة العامة: دارجة الدار البيضاء.
السيناريو الثاني: أنير شاب من الجنوب الشرقي، لغته الأم هي أمازيغية الجنوب الشرقي. ولكنه عندما انتقل من أجل العمل في أحد المرافق السياحية في مدينة مراكش، أصبح مضطرا لاستعمال الدارجة المراكشية والفرنسية أكثر من أية لغات أخرى. هاتان هما اللغتان "المستعملتان" بالنسبة له. الفرنسية ليست "لغة" محلية وليست لغة علم ودراسة بالنسبة له. إنها مجرد لغة يضطر لاستعمالها في مجال عمله الذي يقضي فيه معظم يومه. الأفظع من هذا أن استمارة الحليمي لا تسمح له بذكر لغته الأم في أي مكان منها. المطلوب منه فقط أن يذكر "اللغة المستعملة" ولغة الدراسة المكتوبة.
واضح إذن أن "التناقض" و"الغموض" في صيغة الحليمي ليسا مجرد خطأين مهنيين بل هما آليتان لدفع المستعلَم إلى ذكر اللغات الوظيفية وإقصاء اللغة الأم من المعطيات الإحصائية.
ما هو حافز الحليمي في تجزيء الأمازيغية، على الطريقة الكولونيالية، إلى ثلاث "لغات محلية"؟ وكيف نفسر أنه لم يجزئ الدارجة المغربية بنفس الطريقة؟ وما دلالة التناقض الواضح بين جمعه جمعا متناقضا بين مصطلح "لغة" ووصف "محلية"؟ ولماذا استعمل عبارة غامضة وغير علمية (عبارة "المستعملة") وتجنب استعمال مصطلح سوسيولساني معروف هو "اللغة الأم"؟
لا يمكن أن نجيب عن هذه الأسئلة إلا في ضوء الإنتماء الأيديولوجي السياسي للسيد الحليمي، فهو من قدماء أعضاء سيكريتارية المكتب السياسي لحزب الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبي ذي الأيديولوجية القومية العُروبية، وهو أيضا من عائلة أرسطقراطية فاسية معروفة بأيديولوجتها المتناغمة مع التوجه السياسي لهذا الحزب. فغاية الصيغة الملغومة أن تخلق انطباعا عاما لا يتعارض مع يؤمن به هذا الحزب من أن المغرب "عربي" وجزء مما تسميه الأيديولوجية العروبية ب"العالم العربي". فقد استعملت هذه الأيديولوجية وجود ثلاث تنويعات محلية لتأكد على ما تزعمه أيديولوجية الحليمي من عدم قدرة الأمازيغية على توحيد المغاربة. ووصف التنويعات الثلاثة ب"اللغات" ليزيد في تأكيد هذا الطرح العنصري المعروف. واكتفى بالإستعلام حول "اللغات المستعملة" بدل "اللغة الأم" لأنه يريد أن يتجنب المعطى الحاسم الذي مقتضاه أن اللغة الأم لأغلب المغاربة هي إحدى تنويعات الأمازيغية، وما يمكن أن يثيره هذا المعطى من أسئلة حقوقية تورط الأيديولوجية المهيمنة بشكل واضح أمام المراقب الدولي.
حاول الحليمي على لسان الصحافي توفيق بوعشرين (الصحافي المشبوه الذي أدانته المحكمة بالتحايل على شخص والإستيلاء على ڤيلا بدار بوعزة) أن يدافع عن قراره كما يلي:
"إن مطلب تغيير سؤال استمارة الإحصاء ليصبح متعلّقا باللغة الأم هو أخطر مما يظن هؤلاء، لأن ما يريدنا هؤلاء أن نفعله هو أن نقرّر في أصول الناس، ومعرفة من هو أمازيغي ومن هو غير أمازيغي، وهذا أمر لا أخلاقي علميا ومهنيا، وممنوع إطلاقا لأنه يتدخّل في إثنية وأصول الناس".
لكن هو صحيح أن السيد الحليمي يخاف من سؤال "اللغة الأم" لأنه يحيل على ما يسميه ب"الأصول"؟ لكن عن أي أصول يتحدث؟ أليست تيموزغا مكونا جذرا مشتركا بين جميع المغاربة؟ وكيف يدعي الحليمي بأن السؤال عن "اللغة الأم" يحيل على الأصول وهو يعترف بعظمة لسانه أن المغاربة مختلطون وأن هناك "من هو عربي الأصل ولا يتحدّث حاليا إلا الأمازيغية ولا يعرف أن أصله عربي"؟ إذن، فالسؤال عن اللغة الأم ليس سؤالا عن عن الأصول الإثنية بالضرورة. يمكن أن يعيش بيننا مهاجر من الهند ويتعلم هو وأبناؤه الأمازيغية دون أن يعني ذلك أنه من أصول أمازيغية.فمم يخاف الحليمي إذن؟ هل يخاف ألا يكون إحصاؤه غير "علمي" وغير "مهني" وغير "أخلاقي"؟أليس استبعاد سؤال "اللغة الأم" هو الذي ينبغي أن يوصف باللاعلمية واللا أخلاقية واللا مهنية؟ في الولايات المتحدة الأمريكية صممت الحكومة الأمريكية بيداغوجيا خاصة بالتلاميذ الذين ينتمون إلى أسر لغتها الأم هي الإسبانية (Sheltered Instruction Observation Protpcol)، لأنها لاحظت أن معظم المطرودين من المدارس هم من هذه الفئة من الناس بسبب عدم قدرتهم على متابعة المضامين المتعلَّمة باللغة الإنجليزية. وعليه فإن معرفة الدولة باللغة الأم للمواطن تمكنها من اتخاذ سياسات لصالح هذا المواطن على المستويين التربوي والتواصلى. المعرفة باللغة الأم ضرورة أخلاقية وعلمية ومهنية.
مم يخاف الحليمي إذن؟
الجواب بسيط: الحليمي أمازيغوفوبي ... أمازيغوفوبي يخشى من الإنطباع الذي سيخلفه الإحصاء عند الهيئات الدولية التي ستعتبر نتائج الإحصاء معطيات رسمية وموثوق بها. الحليمي ينتمي إلى تيار سياسي معروف بميولاته المشرقانية ودفاعه عنها. لذلك فقد لعب على استراتيجية التدليس الخفيف في تثبيت الهوية الزائفة التي يرتضيها لشعبه. فهو يعلم جيدا أن معظم المتكلمين بالأمازيغية وغيرهم لا يزالون أميين في حرف تيفيناغ لسبب بسيط جدا هو أن ترسيم الأمازيغية لم يُفعَّل بعد والأمازيغية بحرفها التاريخي تيفيناغ لم تُعلَّم بعد في المدارس. فإذا كانت نتيجة الإحصاء هي أن عدد المتمكنين من حرف تيفيناغ ضعيف، سيولد هذا انطباعا لدى الملاحظ الأجنبي، الذي يهم الحليمي أمره أكثر من غيره، أن الأمازيغ مجرد أقلية إثنية لا يعتد بها، في حين أن تيموزغا هي الهوية الجذر لجميع المغاربة بدون استثناء. مما سينقلنا مباشره إلى تحليل الخانة 25.
الخانة 25
لنتجه الآن إلى الخانة 25 (التي تستعلم حول "الأمية واللغات"). ظاهر السؤال الذي يطرح في هذه الخانة أنه يريد الإستعمال حول اللغات "المتعَلَّمة" كتابة وقرا ءة. لكن الملاحظ أن ذكر الوثيقة للأمازيغية يُتبع ب عبارة "تيفيناغ" بين مزدوجتين مما يخلق ارتباكا في التأويلات الممكنة. هل المقصود اللغة الأمازيغية المعيارية التي تكتب بخط تيفيناغ أم إحدى التنويعات الأمازيغية مكتوبة بتيفيناغ أم المقصود تنويعة بعينها تسمى بتيفيناغ؟ هذا الإرباك التأويلي خلل في حد ذاته لأنه قد يدفع الكثير ممن لغتهم الأم الأمازيغية أن يفهموا بأن السؤال يستعلمهم حول إتقانهم لحرف تيفيناغ الذي لا يتقنه كثير من المغاربة بسبب عدم تعميم إدماج الأمازيغية أفقيا وعموديا في المدارس الوطنية لحد الآن. مما سيعطي انطباعا عاما لقارئ نتيجة الإحصاء أن مستعملي الأمازيغية أقلية معزولة لا وزن لها ولا اعتبار .
ولا ينبغي أن يفوتنا أيضا أن نثير ملاحظة ترتبط بترتيب اللغات في القائمة التي تتضمنها استمارة الحليمي. فشعار الإحصاء نفسه يتضمن عبارة "إحصاء" بالعربية بخط عريض، وتحتها اللفظتان اللتان تقابلان هذه اللفظة في الأمازيغية والفرنسية اللفظتان بخط صغير وفي نفس المستوى، مما يناقض رمزيا مع ما يقره الدستور من كون اللغة الأمازيغية هي "أيضا" لغة رسمية، وما يقتضيه ذلك من ضرورة وضع الأمازيغية في نفس المستوى الإعتباري الرمزي، خصوصا في الوثائق الرسمية للدولة المغربية. فبما أن الدستور المغربي لا يعترف باللغة الفرنسية لغة رسمية، فلا يجوز اعتباريا، وضع اللفظة الأمازيغية في نفس مستواها. هذا بالإضافة إلا أن شعار الإحصاء نفسه (قيمة بلادنا سكانها) يكتب بالعربية ولا يكتب مقابله بالأمازيغية، مما يطرح السؤال على السيد الحليمي ما إذا كان فعلا يدرك أن اللغة الأمازيغية لغة رسمية يجب أن تستعمل على الأقل في الوثائق الرسمية للدولة.
تركيب
الإستراتيجية الإقصائية لإحصاء الحليمي إذن تأخذ شكل قاعدتين منهجيتين استخدمهما الحليمي في إحصائه:
القاعدة الأولى : تجنب الإستعلام حول كل معطى من شأنه أن يكشف تجذر اللغة الأمازيغية وامتدادها الديموغرافي في المغرب
القاعدة الثانية: استعلم فقط حول المعطيات التي من شأنها أن توهم بعدم تجذر الأمازيغية وعدم امتدادها الديموغرافي في المغرب.
لذلك يبدو واضحا أن المقصدية العامة لهذه الإستراتيجية الإقصائية هي التحكم الخِطابي في مسألة الهوية المغربية بنوعين من التزييف:
أولا ـ التعتيم على التناقض الصارخ بين عدم الإدماج الفعلي لتعليم الأمازيغية، من جهة، وما يتطلبه الواقع اللساني من ضرورة إدماجها أفقيا وعموديا، من جهة أخرى.
ثانيا ـ التعتيم على الآثار اللسانية للهوية الجذر للمغرب ( = تيموزغا) ـ تلك الآثار التي حاول مغرب الحسن الثاني وما يسمي ب"الحركة الوطنية" أن يمحوها بسياسات التعريب الفاشلة وإغراء متكلمي الأمازيغية بالهجرة إلى أوروبا الغربية بُعَيْدَ استقلال الجزائر.
خلاصات واقتراحات
أولا - إن الإستعلام المشبوه حول الواقع اللساني لاستمارة الحليمي محاولة للتعتيم على الهوية الجذر للمغاربة، لذلك فلابد للحركة الأمازيغية أن تواجهها بالمطالبة إما بإدماج سؤال "اللغة الأم" في استمارة الإحصاء (يبقى حذف الإستعلام حول اللغة الحد الأدنى للمطالبة بالتعديل).
ثانيا - على الجمعيات الهوياتية والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية أن توجه رسائل تظلم إلى الملك تلتمس منه أن يلعب دور الحَكَم في هذه المسألة. فقد أنصف المغاربة بترسيم حرف تيفيناغ، لذلك فإنه لا شك سينصفهم بتعديل الوثيقة المشبوهة.
ثالثا ـ التأكيد في وسائل التواصل الإجتماعي (بواسطة الصور، الكتابة ...) على ضرورة تعديل أسلوب الإستعلام حول الواقع اللساني في استمارة الحليمي وإفراغها من طابعها الأيديولوجي الذي فضحناه.
رابعا - مقاطعة الإحصاء إذا تشبث الحليمي بتعنته المراهق غير المسؤول.