أحدث برنامج مسار ضجة في صفوف التلاميذ، وأثار اعتراض الأطر الإدارية ورجال ونساء التعليم على حد سواء، مما يجعل الباحث يتساءل عن الأسباب العميقة لهذا الرفض، هل الأمر يتصل بحسابات ذاتية تتعلق بالفاعلين التربويين الذين كثيرا ما أتهمهم البعض بتحريض التلاميذ للاحتجاج على هذا البرنامج ووصفهم بصفات تسيء لأحد أقطاب الفعل التربوي: الأستاذ المتكاسل – الاقتيات بالتنقيط غير الموضوعي؟، أم المسألة تتعلق بالتقاطب السياسي بين أحزاب مشكلة للحكومة وأخرى خارجها متموقعة في المعارضة، وجدت في هذا البرنامج فرصة لتوجيه ضربات للعمل الحكومي؟ أم الأمر يتجاوز هذا أو ذاك ليكشف عن المقاربة الأحادية التي انتهجتها الوزارة في تنزيل هذا البرنامج؟وسنحاول من خلال هذا المقال ان نتوقف عند مختلف دواعي رفض هذا المشروع من طرف مكونات الفعل التربوي بالمغرب ،مع إعطاء مقترحات أولية لتجاوز هذه الضجة حول البرنامج .
إن المتتبع للحقل التربوي في المغرب مند 1983 خصوصا بعد انتهاجه لسياسة التقويم الهيكلي يلحظ أن هذا الحقل أصبح من المجالات التي يحتكرها أصحاب الحمى السياسي والتي تدبر بمقاربة أحادية، بعيدة كل البعد عن ما يروج له في الوثائق المنظمة الحياة المدرسية الداعية إلى : تدبير تشاركي للحياة المدرسية،وانفتاح المدرسة على محيطها الاجتماعي والاقتصادي … فضلا عن طابع ازدواجية الخطاب بين المقاربة التشاركية في تدبير الفعل التربوي والمقاربة الأحادية، فرغم الشعارات المرفوعة في هذا المجال، فإن الشراكة والتشارك التربوي ،غالبا ما تتحول إلى هياكل تربوية بدون مضمون.
وعلى هذا الأساس فإن الاعتراضات التي ووجه به برنامج مسار تنبع في تقديرنا من ضعف المقاربة التشاركية في تدبير الفعل التربوي، وما هذا البرنامج إلا النقطة التي أفاضت الكأس، بل يمكن أن نذهب ابعد من ذلك فنقول :إن الأزمة التي يعيشها التعليم في المغرب لن تجد طريقا للحل إلا ضمن مقاربة تشاركية تأسس لحوار وطني بين مختلف الفاعلين على أساس مشروع مجتمعي متوافق حوله، لكون قضايا التربية والتعليم ليست مسؤولية يناط نجاحها بجهة معينة ومحددة، هي وزارة التربية والتعليم، وإنما هي مسؤولية تقع على عاتق المجتمع بأكمله، أفرادا وجماعات، المنظمات وجمعيات المجتمع المدني والأحزاب والنقابات، ومؤسسات الأعمال، والشراكات ووسائل الإعلام … نظرا لأهميتها من جهة ولكونها عملية تحتاج إلى تضافر الجهود المادية والمعنوية لكافة قطاعات المجتمع من جهة أخرى .
وتأسيسا على هذه الرؤية، نتساءل هل كان اعتماد برنامج مسار مؤسسا على مقاربة تشاركية ، تشاورية مع من يعنيهم الأمر من أساتذة وإدارة تربوية ومجتمع مدني …خصوصا جمعيات آباء وأولياء التلاميذ؟ ولماذا أثار ضجة في صفوف هؤلاء خاصة؟.
من خلال ردود الأفعال التي أثارها هذا البرنامج والاستياء الذي خلفه في صفوف فئات عريضة من مكونات الحقل التربوي والتي بلغت حد تنظيم عدة مظاهرات تلاميذية تجاوزت أسوار المؤسسات التعليمية،و الارتباك الذي خلفه في صفوف نساء ورجال التعليم نصل إلى أن هذا البرنامج كان بعيدا كل البعد عن المقاربة التشاركية والشراكة مع الفاعلين الاجتماعيين التي كثيرا ما تتحدث عنها الوثائق المنظمة للحياة المدرسية، ويعد هذا من الأسباب العميقة التي جعلت هؤلاء لا ينخرطون بشكل إيجابي في تفعيله:
* فنساء ورجال التعليم لم يشركوا في اقتراح هذا البرنامج بل تعاملت معهم الوزارة الوصية كآلية تنفيذية، مهمتها التنفيذ دون الاقتراح والإعداد والتتبع، مما جعلها تتموقع في غالبيتها خارج هذا المقترح، بل وأعلنت رفضها له واستيائها من التعامل الفوقي معها. ويمكن القول أن ضعف الانخراط الإيجابي لنساء ورجال التعليم مع العديد من المشاريع التربوية: كبيداغوجيا الإدماج – المقاربة بالكفايات – بيداغوجيا المشروع … مرده عدم انتهاج مقاربة تشاركية تنبع من الأسفل مع الفاعل التربوي عند الإعداد لهذه المشاريع واعتبار الأستاذ آلية تنفيذية فقط، مما يحول في الكثير من الأحيان دون نجاح هذه المقترحات التربوية.
* ثم إن خروج التلاميذ للاحتجاج على هذا البرنامج ينبع من النظرة الكمية للنجاح التي تشبع بها المتعلم المغربي والتي تعتبر النقطة المرتفعة مقياسا للتفوق التربوي، بل إن هذه النظرة هي نتيجة منطقية لفشل السياسة التعليمية التي لم تعد تخرج إلا أنصاف متعلمين،ونتيجة أيضا للمنطق الكمي الذي تشبع به في المنظومة التعليمية ، فقبل أن نسائل المتعلم عن هذا الوضع، لا بد من مساءلة هذه السياسة التعليمية التي أنتجت هذا الفشل لعقود من الزمن والذي فصلت المتعلم عن مجتمعه ولم تمنحه قيما اجتماعية تحدد دوره ووظيفته فيه ، مما جعله يعيش التيه ويتصف بفردانية قاتلة، ولعل في شعار ” هذا عار هذا عار الكسالى في خطر “ لأعمق دليل على صدق ما نقوله، إنها الرغبة الجامحة في ” النجاح “ بدون أي مجهود علمي.
* فالاحتجاج بهذه القوة أيضا يرتبط أساسا بتمثلات المتعلم للنجاح المتمثلة لديه في كون النقطة المرتفعة مؤشرا على نجاح المتعلم في مساره التعليمي وضمانه لمكانة اجتماعية في المستقبل،وان أي مساس بها يهدد هذا المستقبل .
* كما أن منظومة مسار تعاني من غموض الأهداف، فرغم أنها تحدد أهدافها في إدماج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في المنظومة التربوية، وتطوير آليات وأساليب عمل الإدارة التربوية وتعزيز الحكامة في النظام التربوي. وضمان مبدأ الشفافية وتكافؤ الفرص بين جميع التلميذات والتلاميذ من خلال التتبع الفردي لكل تلميذة وتلميذ سواء من طرف الأساتذة وآبائهم وأمهاتهم، فإن هذه الأهداف تتوقف عند الإصلاح الشكلي والكمي للمنظومة التربوية وتقويم حصيلة المتعلمين ،دون النفاذ إلى عمق المشكل ،والمتمثل في تقديرنا في ضعف المردودية الداخلية للفعل التربوي ،وضعف تمكن المتعلمين من الكفايات التعليمية في كل مستوى دراسي، والذي يعبر عنه التراجع الخطير في مستوى المتعلمين في كافة المجالات وارتفاع نسبة الهذر المدرسي في صفوف التلاميذ وضعف ارتباط التعليم المغربي بالحياة العملية والاجتماعية والاقتصادية مما يجعل منه تعليما بدون بوصلة اجتماعية ومعنى موجه.
* لقد أحدثت منظومة مسار أيضا ارتباكا لدى كل الفاعلين في العملية التعليمية تجلت أهم مظاهره في الارتباك في تحديد نهاية الأسدس الأول وعدم وجود هندسة للسنة الدراسية بحكمها منطق واضح، فإذا كانت بيداغوجيا الإدماج قد حددت توزيعا واضحا في الهندسة الزمنية للسنة الدراسية فإن الفاعل التربوي لازال يتساءل عن أي هندسة زمنية تعتمدها الوزارة للسنة الدراسية، ولقد كان برنامج مسار من بين الأسباب التي أحدثت هذا الارتباك في تحديد فترة الدورة الأولى، إذ تم تحديد نهاية الدورة الأولى في المذكرة المؤطرة للعطل المدرسية مع رأس السنة الميلادية ليتم بعد ذلك اعتبار نهاية شهر يناير موعدا لنهاية الدورة الأولى، وباعتماد منظومة مسار تم تحديد نهاية شهر فبراير موعدا لمعالجة شكايات وتصحيح نقط الدورة الأولى مما يعني أن التلاميذ لن يتوصلوا بنتائج الدورة الأولى قبل هذا الموعد، وهم الذين اعتادوا على التوصل بها مع نهاية الدورة الأولى.
ويزداد الأمر تعقيدا إذا استحضرنا ايضا ضعف البنيات التحتية لمؤسستنا التعليمية التي تفتقد في عمومها لقاعات متعددة الوسائط تمكن رجال التعليم من أجرأة هذا البرنامج، وفي حالة وجودها تعاني من عدم ربطها بالانترنيت أو ضعفه، فضلا عن هذا فأغلب هؤلاء الذين أنيطت بهم مهمة أجرأة هذا البرنامج يعانون من ضعف التكوين المعلوماتي ،مما يجعلنا نعتبر هذا الإجراء شكليا لا يمس في عمقه ما تعاني منه المدرسة المغربية من ضعف البنيات التحتية وتحكم اعتبارات مالية في التقويم التربوي والرسوب والنجاح وهو ما يعرف عند رجال التعليم بالخريطة المدرسية التي تحدد مسبقا نسبة النجاح، مما يجعل هذا الآلية التربوية المعتمدة في التقويم إجراء شكليا دون مضمون، فإذا كان التقويم من أهم أهدافه معرفة درجة تمكن المتعلم من الكفايات الأساسية التي تمكنه من الانتقال من مستوى إلى آخر، فإنه يصبح دون فاعلية عندما تتحكم الخريطة المدرسية أي نسبة النجاح في انتقال المتعلم من مستوى إلى آخر ، وبالتالي كان من الأولى عوض إدخال هذه الآلية إلى الحقل التعليمي، البحث عن الوسائل الكفيلة للرفع من مستوى مردودية التعليم الذي يصنف في مراتب دنيا عالميا ،وذلك بجعل التمكن من الكفايات النوعية لأي مستوى معيارا للانتقال من مستوى لأخر.
إن برنامج مسار والاحتجاجات المصاحبة له كشفت عن إختلالات عميقة يعيشها الحقل التربوي والتي تتطلب من الفاعلين التربويين والاجتماعيين والسياسيين عدم الوقوف عند مظاهرها، بل الأمر يتطلب النفاذ إلى عمقها لاكتشاف دلالاتها، وفي تقديرنا أن وصف هذه الاحتجاجات بالطائشة والمدفوعة من جهات لها نيات مضادة أمر يجانب الصواب، فهذه دلائل اجتماعية على بؤس وفشل نظامنا التعليمي الذي يحتاج إلى فتح حوار وطني عميق على أساس مشروع مجتمعي متوافق حوله.
وإذا كان هذا البرنامج كشف عن جملة من العوائق في التنزيل فإن أجرأته تتطلب جملة من الإجراءات نحصرها فيما يلي:
* توفير الآليات الضرورية لإنجاح هذا البرنامج من توفير وتأهيل للموارد البشرية القادرة على أجرأة هذا البرنامج وتعزيز البنيات التحتية للمؤسسات التعليمية خصوصا القاعات المتعددة الوسائط .
* ضرورة إشراك الفاعلين التربويين وجمعيات وآباء وأولياء التلاميذ من خلال مجالس التدبير في تقييم أنفسهم هذه التجربة ومدى فاعليتها في تحقيق جودة تقويم التعلمات في المنظومة التربوية.
* ضرورة اعتبار التعليم شأن عاما وقضية مجتمعية تقتضي تعبئة شاملة وانخراط الجميع من أجل إيجاد حل للفشل الذي يعرفه نظامنا التعليمي.
* سحب منظومة مسار وفتح حوار مع كل الفاعلين التربويين الاجتماعيين خصوصا أمهات وآباء التلاميذ للتعرف أولا على هذه المنظومة وتقييم درجة فاعليتها.
* التعامل الإيجابي مع الرفض العام لهذه المنظومة التقويمية وفتح حوار جدي مع مكونات الفعل التربوي: تلاميذ – أساتذة – مديرين – أمهات وآباء التلاميذ للكشف عن الأسباب العميقة وراء هذا الاحتجاج والرفض.
* البحث عن الأسباب العميقة لفشل نظامنا التعليمي وعدم التوقف فقط عند إجراءات شكلية وكمية، فأزمة التعليم في المغرب تنبع في تقديرنا من ضبابية في المشروع المجتمعي المنشود وعدم ربط التعليم بهذا المشروع وبمحيطه الاجتماعي والاقتصادي والمهني، بمعنى عدم قدرته عن الإجابة عن الحاجيات الاجتماعية للمواطن المغربي، وتحقيق ذلك يتطلب في تقديرنا فتح ورش حوار وطني يشارك فيه كل الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين والنقابيين والاقتصاديين …
* تجاوز النجاح الآلي من مستوى لآخر، سواء عبر ما يسمى بالخريطة المدرسية أو نسبة النجاح، واعتبار التمكن من الكفايات النوعية لكل مستوى معيارا للنجاح.