تتوالى الأحداث في غزة الصامدة؛ و تتناسل مع تعاقب هذه الأحداث الأسئلة و التحليلات عن حقيقة الهجمة الصهيونية على أهالينا في تلك القلعة الصامدة. وطبيعة المعركة هناك؛ و إمكانيات الفلسطينيين في الصمود و مواجهة الغطرسة الصهيونية؛و مواقف القوى الممانعة إسلامية أو قومية أو علمانية...مما يجري على أرض الإسراء؛وقبل ذلك موقف الحكومات العربية و الإسلامية من المأساة. ويحق لكل متتبع أن يتسائل: هل العدوان الذي يقع في غزة يستهدف الوجود الإسلامي ممثلا في حماس باعتبارها حركة ارهابية كما يدعي الكيان الغاصب وبعض الدول العربية ؟ أم أن القضية أبعد و أشمل من ذلك؟ما حقيقة هذا العدوان ؟ لماذا تحدت الشعوب العربية و الإسلامية نسبيا في موقفها من العدوان و انقسمت الدول و الحكومات العربية و الإسلامية؟
تلكم جملة أسئلة سنحاول الإجابة عنها من خلال هذه المقالة؛ والتي هي في الاصل مقالة كان سبق ان كتبناها في العدوان السابق على غزة مع بعض التعديلات.
1 - في طبيعة العدوان على غزة:
يحق لنا أن نتسائل هل العدوان على غزة يعد حقيقة عدوانا على حماس و هجوما على بؤرة من بؤر الإرهاب و التطرف وإعادة السلطة المنقلب عليها من طرف حماس إلى أصحابها الشرعيين؛ ودفاعا عن الديمقراطية المغتصبة كما يرى الغرب و من سار في فلكهم من العرب دولا و مثقفين؛أم أن الأمر يتجاوز ذلك ؟
* إن ما يقع في غزة يتجاوز هذا وذاك؛العدوان على هذه القلعة الصامدة هو استهداف لكل مشروع تحرري بغض النظر عن توجهه الأيديولوجي أو العقدي يخرج عن المحور الغربي؛لان الغرب عموما و أمريكا خصوصا في تقديرنا لا تسعى إلى تعدد ديمقراطي بل تسعى بكل قواها العسكرية و الثقافية و الاقتصادية إلى تفكيك كل قوة لا تسير في فلكها؛واستبدالها بدول أو كيانات متحللة شكلا و مضمونا في التوجه الغربي.
* العدوان على غزة محاولة يائسة من الجيش الصهيوني ،لتحقيق مشروعه التوسعي و استثمار المرحلة الحالية التي يعيشها العالم العربي المتسمة بالتمزق والتشتت بعد انهيار الجبهة السورية الداعمة للمقاومة والتفكك السياسي الذي تعرفه مصر والانهيار الذي تعيشه مجموعة من البلدان العربية :ليبيا ،السودان ... بمباركة غربية وامريكية واضحة للعيان ،ودعم عربي غير مسبوق من دول عربية :السعودية ،الإمارات مصر ،انه استهداف لكل قوى الممانعة في العالم العربي و الإسلامي خصوصا و العالم عموما.
* العدوان على غزة يستهدف إعادة تشكيل الخريطة الجيوسياسية في الشرق الأوسط وقتل كل المشاريع المناهضة للكيان الصهيوني و إضعاف كل الدول المنافسة له لصالح بروز قوة وحيدة سياسيا و اقتصاديا...قادرة على الحفاظ على المصالح الغربية في المنطقة:الكيان الصهيوني.
وعلى هذا الأساس يمكن أن نفهم موقف الدول الاروبية و أمريكا و بعض الدول العربية مما جرى في لبنان و العراق سابقا و ما يجري في غزة حاليا.فحصار السلطة الفلسطينية المنتخبة‹حماس›وعدم منحها فرصة؛وتفضيل شروط و املاءات صهيونية على انتخابات ديمقراطية و على إرادة الشعوب.يفضح و بالمكشوف قذارة الحديث الاروبي و الأمريكي عن الأخلاق في السياسة و عن الديمقراطية كما يذهب إلى ذلك عزمي بشارة؛فعن أية ديمقراطية يتحدثون؟في الوقت الذي تغتال فيه أول ديمقراطية في فلسطين؛لا لشيء؛و لكن لأنها لا تسير في فلكهم و توجههم الأيديولوجي.
و من هنا ايظا يتضح موقف الدول العربية مما يجري؛إن نجاح حماس سيضع الدول العربية خصوصا المحاذية أو القريبة منها في موقف حرج؛ فحماس ستكسب قوى الممانعة إسلامية أو وطنية؛شحنة نفسية و سياسية للمضي قدما في مشروعها من اجل مقاومة كل تطبيع مع الكيان الصهيوني من جهة و تفرض عليها إدخال تغييرات في أجهزتها السياسية تتجه نحو بناء ديمقراطية حديثة تسمح للقوى الفاعلة سياسيا من الوصول للسلطة؛وهذا يقض مضاجع الحكومات العربية التي ترتبط مصالح بعضها بأمريكا و الغرب عموما.
لقد فضح العدوان على غزة التيار‹المعتدل› كما يحلو له أن يسمي نفسه سواء كان موقفه داخل الدولة أو في صفوف‹المثقفين›ووضعهم في حرج؛لقد كشف عدوانية و نازية الكيان الصهيوني المبنية على قتل الأطفال ونشر الرعب في صفوف اهل غزة ، وزاد من عبئ الدول الغربية،لقد أصبح الكيان الصهيوني عبئا ثقيلا عليه لأنها تحرجهم أمام شعوبهم و العالم و تبين زيف ادعاءاتهم لاحترام حقوق الإنسان و الدفاع عن الديمقراطية.و لربما تكون المقاومة الباسلة قد نجحت في جر العدوان الغاصب إلى المصيدة الأخطر في تاريخه؛واستطاعت فك الحصار الإعلامي الدولي الذي كان مفروضا على غزة.
لقد استطاعت المقاومة أن تعيد القضية الفلسطينية إلى قلوب الشعوب عربيا و عالميا و أن تحرك التعاطف الشعبي معها و تضع فرزا حقيقيا بين تيارين داخل العالم العربي:تيار الممانعة المساند للمقاومة و تيار‹السلام›.عفوا الاستسلام المساند لمشروع‹ الشرق الأوسط الكبير.
لقد فضح العدوان على غزة بعض المثقفين من بني جلدتنا الذين كثيرا ما تغنوا بالدفاع عن القيم الإنسانية ،وهاهم الان يصمون آذانهم ويضعون لجاما على أفواهم ،وكان الدم الغزاوي لديهم لا يحرك فيهم هذه القيم الإنسانية .
لقد كشف العدوان عن الإمكانيات العسكرية للمقاومة ،والتي استطاعت ان تصل الى عمق الكيان الغاصب في تل ابيب ،واظهر فشل الحصار الشامل على غزة ،وابان انها قادرة من عمق آلامها على تطوير ترسانتها العسكرية وأن الرهان على القضاء على حق الشعب الفلسطيني في ارضه والعيش الكريم رهان فاشل.
لقد أبان ان حق الشعوب في العدالة والكرامة والتحرر من قوى الاستكبار حق أصيل مهما خفت المطالبة به فإنه لا يمكن اجتثاثه من اعماق الشعوب ،ومن هنا يمكن فهم هذا التعاطف الكبير مع المقاومة هناك في غزة .
لقد عرت المقاومة عن سوأة بعض الدول العربية التي راهنت على الوضع العربي المتأزم لتوجيه سهامها لحركة حماس والقوى الفلسطينية المقاومة باعتبارها حركات ارهابية ،واظهرت زيف هذا الإدعاء وانحيازها المكشوف لجانب الكيان الاسرائيلي .
لقد أعادت المقاومة الدفء للشارع العربي،الذي كادت تخمد تحركاته بعد الربيع الديمقراطي نتيجة الانقسامات السياسية والايديولجية بين النخب ،واستطاعت ان توحده نسبيا للاحتجاج ضد هذا العدوان .
2 - في آفاق المعركة في غزة:
لقد استطاعت المقاومة الباسلة فك الحصار الإعلامي عنها؛وأعادت التعاطف الشعبي معها؛ولكن ماذا بعد؟
* بدءا و جوابا عن هذا السؤال نقول:إن القوى العسكرية العظمى؛إذا كان بإمكانها الانتصار على الجيوش النظامية تقف عاجزة كليا أمام حركات المقاومة:حرب تموز بلبنان؛الصومال؛أفغانستان؛العراق؛...لسبب بسيط أن هذه الحركات تعتمد أساسا على إستراتيجية قوامها إغراق العدو في حروب استنزاف دموية و بشرية مالية و المقاومة في غزة قادرة على تحقيق ذلك و نشر الرعب في الصهاينة.
* إن أهلنا في غزة لا ينتظرون منا فحسب التعاطف الشعبي و الخروج في مظاهرات و مسيرات من اجل التعبير عن نصرتهم؛بل ينتظرون منا اعتماد إستراتيجية طويلة الأمد؛أساسها الانخراط و التأسيس لكل ما من شانه أن يقوض أسس التطبيع مع الكيان الصهيوني و الانحياز لقوى الممانعة و بناء مشروع تنموي قادر على إخراجنا من التبعية و التخلف و الانبطاح للغرب على كافة المستويات؛و الضغط من اجل أن يخسر الكيان السرطاني المعركة سياسيا.
* أهلنا في غزة لا ينتظرون من الأنظمة العربية الصدقات و الهبات؛إنهم ينتظرون قرارات جريئة اتجاه هدا الكيان السرطاني و الغرب:يكفي أن تهدد هذه الدول منع إمداداتها من النفط العربي أو بقطع علاقاتها مع هدا الكيان و الغرب؛أو على الأقل تعليقها؛او تجميد أرصدتها في البنوك الغربية؛فلعمري أن هذه الدول ستأتي راكعة وتغير بوصلتها 180 درجة.
* إن بداية النصر تبدأ من قوة*الإرادة* و من عمق الإيمان بقضية ما. مشكلتنا كعرب أننا أصبحنا نعيش العبث و اللامعنى على كافة المستويات.أصبحنا نعيش بدون*قضية*بدون*مشروع*؛فتحديد طبيعة القضية التي نعيش من اجلها سيجعلنا نحشد لها كل الإمكانيات المادية و المعنوية من اجل تحقيق النصر.*قوة الإرادة*في تقديرنا هي التي هزمت الكيان السرطاني في لبنان؛و هي التي حققت و لا تزال تحقق النصر لكل قوى التحرر في العالم.
* إن المخرج على المستوى الداخلي الفلسطيني لن يتأتى في تقديرنا إلا بتنسيق الجهود بين كل القوى الفلسطينية الوطنية و الإسلامية في إطار مشروع و حدة و وطنية تحدد فيها الأولويات الحالية و يتجاوز الخلافات الإيديولوجية بين الفصائل الفلسطينية و يضع هدفه الاستراتيجي مواجهة الكيان الصهيوني و الدفاع عن عزة و كرامة كل فلسطيني على أرضه و استرجاع الأراضي المغتصبة.
أخيرا إن العدوان على قطاع غزة سينتهي يوما ما بعد أيام أو حتى أسابيع، ولكن المتغيرات التي أحدثها و سيحدثها في المنطقة العربية و ربما العالم بأسره؛ستستمر لعقود؛فالعملية السلمية سقطت؛ و المراهنون عليها في السلطة الفلسطينية سقطوا أيضا و الاعتدال العربي تعرض لأكبر حرج في تاريخه و مرحلة خداع الشعوب العربية بالمؤتمرات و التصريحات انتهت، فلحظت الحقيقة تنطلق الآن من الدماء الزكية الطاهرة لشهداء غزة.