سليمان محمود/جديد انفو
لا توجد عداوات أبدية، ولا صداقات خالدة، في عالم السياسة. لا يوجد سوى علاقات لا يفسرها إلا علم النفس الكارتوني؛ كالعلاقة بين اليسار المغربي والحركات الإسلامي، وبالأخص فصيلهما الحركيُّ والراديكاليُّ. ولا يمكن فهمها علاقتهما تلك دون العودة إلى المسلسل الكرتوني الطفولي العبقري: طوم وجيري.
يبدو اليسار كأنه القط الذي يعيِّنُ نفسَه حامياً لقيم الحداثة والتنوير، ويرى في الفأر تمثالاً رجعياً لظلمات العصور الوسطى. والإسلاميون هنا هم الفأر الذكيُّ الذي يتقافز بخفة، مزهواً بنصوص شرعية، وأدعية مسنونة، يتسلل عبر ثقوب الدولة والمجتمع، ويقلب طاولة القط إذا ما اقترب من قطعة الجبن.
يا ربَّاه ما أعجبَ هذا الارتباط الأزليَّ؛ إن القط لا يستطيع أن يعيش دون فأر يطارده، وما كان الفأر يوجد بلا قطٍّ يلاحقُه! إنها قصةُ جذبٍ ونفورٍ عجيبيْن، وعشقٍ وعداءٍ مثيريْن، وضربٍ وضمٍّ مرعبيْن. وكلما ابتهج أحدهما نشاطاً، تنفس الآخر أكسجين الحياة، وإذا ما خمِد وهجُ الأول، أصيب الثاني بنوبة ملل إيديولوجي، يشعر به كتهديدٍ بموته الفكري.
لقد اختار الإسلاميون الراديكاليون، في التسعينات، حياة الفأر الكهفية؛ فيختفون عن الأنظار في الجحور، ويظهرون عند الأزمات. أما اليسار، فبلغ أزمة منتصف العمر السياسية، فظل يبحث عن بوصلة يهتدي بها، ويكتب بيانات ومنشوراتٍ، أكثر مما يكتب شعراءُ المرأةِ قصائدَ الحبِّ والهَجْر.
اما السلطة، فيبدو واضحاً أنها من تضع قطعة الجبن في منتصف المطبخ، وتترك الفأر والقط يتصارعان، بينما تجلس هي على الكرسي تراقب، وتضحك بالأقداح، في صحة الاستقرار والتوازن، حتى أطلَّت علينا صرخات الربيع الديمقراطيِّ، عندما احترق صبرُ الشعوبِ، فتحوّل الفأر في سنة 2011 إلى نجم الجماهير، وحصل على مفاتيح المطبخ، بينما جلس القط يلعق جراحه تحت الطاولة، متأملاً "زحفَ الظلام"، و"نتانةَ الجحور"، متسائلاً بانكسار:
-- "كيف ضاع مني الجبن، وأنا أؤمن بالأنوار؟".
لكن، لا شيء يدوم. وهكذا عاد الفأر إلى الجحر حين ارتفع صوت المطبخ العميق، وعاد القطُّ ليفهم أنَّ أحلام المادية الجدلية، والصراع الطبقيَّ، والعدالة الاجتماعية قد انتهت في عصر بريق السوشيال مؤدياً، وأن الجميع بات مشغولاً بالبُوز، والتباهي في السطوريات بالأموال تترعرع بالتكبيس واللايكات.
ندرك طوم وجيري أن عليهما الاتفاقُ، فلن يسمحا في شرعيتهما التاريخيةِ، ربما يحلمان بالخلافة الجمهوريةِ الشعبية الإسلامية، ويجب على السلطة أن تملأ الصحون، وتغسل الأواني، وتترك لهما الميكروفون، فتلتقي تاكتيكاتهما. والسلطة هي الكلب سبايك.
لكنهما سرعان ما يعودان لمطاردتهما المشوقة للأطفال. مطاردة لا تخرج من المطبخ؛ فلا مشروع، ولا إصلاح، ولا رؤية، إنما هي مجرد جولات من الركض بين القدور. غير أن الحق يقال: إن طوم وجيري صادقان في مطاردتهما، بينما القط -عندنا- يبتسم للفأر في الندوات، ويضعه يده فوق يديه، وهما يرتديان الكوفية، متبادلان الابتسامات التي يدرك كل واحد منهما أنها زائفة، ويشاركه وجبة تويترية على الطاولة، ثم يذهب ليشتمه في منشور فيسبوكي ملئ بالعمق الزائف.
أما نحن، الشعب، فقد كبرنا، ولم نعد نرى سوى فيلم مضى عليه نصف قرن، ولم يملاَّ من هذه الرتابة.
كبرنا، وفهمنا... لكننا ما نزال نتابع، بحثاً عن الفرجة التي لم يعد له طعمٌ ولا مذاق، إلا أننا -رغم ذلك- نضحك من "الفقصة". نتابع الفأر حين يرتقي المنصات بخفة خطيبٍ، يزمجر بلِحيةٍ كَثَّةٍ، كأسد مُصابٍ بالزكام، ونصفق للقط لما يُبدع في المعارضة، مثل شاعر رومانسي فقد معنى الحياة، في صندوق الاقتراع الرخيص. نضحك، نعم بأدب، كما يضحك أحمقُ مُصِرٌ على البحث عن طريقة للحصول على تعبئة "نجمة ستة"، كي لا يفوته شيءٌ من اللاشيءِ، فيضيع منه أن يكون "ولد الوقت"، وهو عنده كل شيء. هكذا يعطس القط حين يُصاب الفأر بالزكام.