سليمان محمود

لقد وُلدتُ في الجنوب الشرقي للمغرب. كل شيءٍ طبيعيٌّ هناك. الناسُ طيبون، بسطاءُ، قانعون، "محزوقون" جداً. نشأنا -عبر التاريخ- على اقتصاد القِلَّة، حيث اعتاد أجدادنا وجداتُنا تطويعَ الطبيعة القاسية، والتأقلم معها حدَّ التعايشِ في تناغمٍ. لكن ظروف عصر التكنولوجيا أحدثت تغييرات بنيوية في كل شيء، فلم يعد يبدأ اليوم بصياح الديَكة، ونهيق الحمير، وصار جرسُ المدرسة نوستالجيا، والباعةُ لم يعودوا يجدون ما يبيعونه، ولو بالتجوال، وشحَّتِ الأرض، وضاقت بما لم تكن رَحْبةً به يوماً. 

 

بات الناسُ، في كل صباح، يبكِّرُون بسؤالٍ قديمٍ يتجدَّدُ كل ليلةٍ: هل ستصل الدولة اليومَ إلينا؟ لماذا تنسانا باستمرار؛ فلم نعد قبائلَ لها أعرافها، بل صرنا في دولةٍ بمعايير حديثة، من المفروض عليها أن توزع كل شيء على مجالاتها الجغرافية والثقافية بالعدل؟

 

إن هذا السؤال ليس وجودياً، ولا فلسفياً، ولا رمزاً أدبياً، أو ثقافياً. أقسم لكم أنه حرفيّّ؛ فالناس دوماً هنا تستغربُ سبب النسيان، وتتساءلُ: هل ستصل قافلة طبية، أو بعثة إدارية، أو لجنة تفتيش، أو حتى سيارة إسعاف تُذكّر الناس أن الدولة لا تزال تتذكرهم بين فينة وأخرى، حتى ولو لنقل جثثتهم إلى المقبرة بهيبةٍ مستحَقّة؟

 

كلُّ شيءٍ متأخرٌ في هذه الربوع المنسية من الوطن الرحيم بالجميع، حيث تتعانق الجبال مع شظف العيش، ويربّي الناس صبرَهم كما يُربَّى التين في التربة اليابسة معتاداً على أشواكه، حتى صار "صبَّاراً جداً". القوافلُ الطبيةُ أيضاً تصل متأخرةً، تماماً كما تصل رسائل البريد في الهوامش المعزولة التي لم تبلغها سرعة 4G، فأنى لها بأسرع منها!

 

رغم أنها تتأخر، لكنها تُستقبَل بأهازيج النساء، ودعاء "إِدْ مْ لْفْدِيْتْ"، ورقصاتِ أحيدوس، مع فرقة "لَفْوَالْ"، وكناوة تودغى. غالبية الذين يرقصون ويغنون مهللين بقدوم القافلة معطوبون، ربما بكِلية مصابة، أو ضرسٍ لم يعد يقوى على مرور حموضةِ اللبن عليه، وقد تكون عينُه، أو كلاهما، قد تضببت عنهما الرؤية بسبب "جْلَالَة" متطفِّلةٍ. لا تهم أعطابهم، فقد جاء المنقدون لوجه الدولة التي تخلت عنهم، ورفعت يديْها على صحتهم. قوافلُ طبيةٌ تبدو كطيفٍ عابرٍ يُزيِّن بشاعة تخلي الدولة عن مواطنين يدفعون ضرائب من كل نوع. تجئُ مُحمَّلةً بالأطباء، والمعدات، والكاميرات، والوعود… وأحيانًا: الشتائم. 

 

نعم، فلستُ أبالغُ عندما أقول: "الشتائم"، كما حصل في إحدى هذه القوافل، والتي قصدت منطقة ألنيف النائية، في أطراف إقليم تنغير، حيث قلبُ المقاومة الشرسة للاستعمار الفرنسي، إذ وقع ما لم يكن في الحسبان، فقد حدث أن مواطناً طاعناً في السن، قهرته الطريق، والسنوات والتكلُّس، تلقى "دواءً" من نوع خاص، غيرَ مُدرَج في قائمة منظمة الصحة العالمية. كان ذلك الدواء لفظياً، على شكل نعتٍ بـ"الحمار" من رجل سلطة برتبة "قائد"، كما نقلت وسائل إعلام، وصفحات على مواقع التواصل. 

 

وقد تبادرت إلى ذهني واقعة مشابِهةٌ مفارِقةٌ، فقد تعرَّض قبله "زايد أوحماد" لصفعة، أثناء أشغال عمل إجبارية لطريقٍ تبنيه فرنسا المستعمِرة للبلاد حينها. صفعَه، فأحس أوحماد بنار الغضب على كرامته تشتعل في كل روحه وكيانه، فأحرق فرنسا، وأرهقها لما يزيد عن أربع سنوات، وتحول من رجل بسيطٍ، لكابوس يكبِّد المستعمر خسائر في الأرواح، بلغت جنرالات وكولونيلات، وقادة عسكريين.

 

لم يكن ما وقع في ألنيف مشهداً في مسرحية كوميدية سوداء، بل كان واقعاً حياً رآه العالم كلُّه في فيديو بالصوت والصورة، أمام الحشود والصراخ، وعلى هامش قافلة يفترض أنها جاءت لترحم الناس من جزء من التهميش. 

 

ربما لم يكن المسؤول الأمنيُّ يقصد ما تفوَّه به، وربما تكون حرارة الجو، وحماسةُ العمل الإنسانيِّ، قد خاناه، وقد يكون بالفعل قد سقط في درسٍ مهمٍّ من دروس "المفهوم الجديد للسلطة"، الذي يسعى لجعل المواطن مركز اهتمام السلطات، بدل أن يكون هو عبداً خاضعاً لبطشها وشططها، والذي يقوم على حماية الحريات الفردية والجماعية، وصيانة حقوق المواطنين، ويرتبط برعاية المصالح العمومية، وحمايتها، ومتابعة حسن سير الشؤون المحلية عن قرب، والسهر على الأمن والاستقرار، وتشجيع المحافظة على السلم الاجتماعي.

 

إن القوافل، على روعتها الظاهرية، تتحوّل -كل مرةٍ- إلى مسرح غريب؛ يعرضُ مشاهد للطمأنينة، تتخللها فواصل من الغضب، ومن الكبرياء الذي جرحه القهر والتهميش؛ فالمواطن لا يأتي بحثاً عن الدواء والعلاج وحدهما، وإنما يأمل أن يشعر بأنه مواطنٌ إنسانٌ، وليس مجرد رقم في الإحصاء، أو صوت انتخابي، أو متطفل على صورة جماعية لعليةِ الفوم من الزائرين والأجانب.

 

إن سلوكات الاحتقار، تحت حرارة الشمس المحرقة التي تنتظر فيها طوابير طويلة، تغرس في النفوس شعوراً بأن الكرامة، في بعض المواقع، ما تزال رفاهية، وتكشف حاجة المواطن في تلك البقاع المقصية إلى مترجم إنساني، يشرح له لماذا يُهان وهو في وضعية انكسار، تماماً كحاجته إلى طبيب يداوي جروحَه البدنية التي خلَّفها الحرمان من كل سيء.

 

ومع ذلك، لا ينبغي أن نُنكر الجهود المبذولة، فهناك أطباء أبلوا البلاء الحسن، وممرضون جاؤوا من بعيد بروح إنسانية عالية، ووجوه شاحبة من التعب، لا من الغرور. ويجب أن نعترف أن هناك جنودَ خفاء، وأشخاصاً بذلوا كل طاقتهم بكل حب وتضحية، وهؤلاء لا ينبغي أن تغمرهم مياه النقد، فلسنا سوداويين؛ فالقوافل الطبية، ومن ورائها الجمعيات التي تنظمها، وتشرف عليها، وتنسق لنجاحها، ليست مطالَبة بأن تجرّ خلفها المستشفيات والمصحات، ولا أن تحوّل الجنوب الشرقي إلى استراليا، أو النرويج، لكننا نصر على أن تترك خلفها شيئاً من الإحساس بالاحترام، وألا تزرع في الصحراء شوكة أخرى من شعور بالدونية؛ فأهالينا هناك لا يريدون الكثير، أذ كل حاجتهم أن يُخاطَبوا بصفتهم إنساناً، وأن يشعروا بأنهم مواطنون مغاربةٌ، وليسوا رعاعَ الهامش، ولا أوباشَه.