سليمان محمد -تنغير / جديد انفو

الحكمة ضالة المؤمن. هكذا علَّمتنا ثقافتُنا. ونحن نملك منها، في المغرب، رصيداً وافراً، إذ ننام فوق دخائرَ وكنوز من الحِكم، ليست كتلك التي نتعلمها في الكتب، بل تلك التي تتكفل الحياة نفسها بحفرها في الذاكرة الشعبية، لتصير مقولاتٍ صادقةً، فاضحةً، كاشفةً، ومعرّيةً للواقع الذي تحاول الشعارات الطنانة تجميله، في نشرات الأخبار، وتصريحات كبار المسؤولين في وسائل الإعلام.

 إن الأمثال الشعبية عندنا، تختصر في جملة واحدة ما تعجز عن تفكيكه تقارير علم الاجتماع، وتحليلات علم النفس الجمعي. ومن بين هذه الجمل الكثيفة، تبرز واحدة ثقيلة على اللسان، لكنها أخف ما يكون على الضمير الوطني: «كُلْ، أُ وْكَّلْ».

جملةٌ مغربيةٌ قصيرةٌ، مركَّبةٌ من فعليْ أمرٍ، لكنها مكثفة، لا تحتاج إلى شرح، ولا إلى مجاز. إنها، ببساطة، المانيفِسْتو الكاملُ لمنظومة الفساد، من أصغر موظف جماعي، إلى أكبر سمك قرش يسبح في المرفأ السياسي.

 جملة بسيطة أشبه بوجبة كسكس يوم الجمعة؛ دسِمةٌ بدهون الرشوة، ومُحلاةٌ بسكر الطمع، ومرشوشةٌ بملح السكوت.

"كُل ووكّل" ليست مجرد شعار للفساد، فهي أشبه بالخطة المثالية لضمان استمراره بسلام، وكأنها تقول: «تسرق؟ لا بأس في ذلك، لكن لا تكن بخيلاً. وزّع الغنيمة. اجعل الجميع يتذوق ولو قطعة صغيرة من الخبز المسروق، وعندها فقط ستضمن صمتهم الجماعي؛ فحين يأكل الكُلُّ، يصبح الجميع متورطاً، ويصير من العبث انتظار من يجرؤ على فضح ما يجري، إلا ذاك الذي لم ينل نصيبَه بعد».هكذا تتحوّل الجريمة/الفسادُ من فعل فردي إلى طقس اجتماعي، ويتحول المواطن من شخص صالح إلى شريك صامت في جريمة منظمة، تنطلق من دهاليز الدولة، وتمر عبر مكاتب الإدارات، ومن أزقة الأحياء، لتصل حتى حجرات العائلة.

ان السارقَ والراشي والمرتشي والنصابَ مجرمون، في الدول التي تحترم القانون، وتجعله فوق الجميع. أما عندنا، فإن كان سارقاً سخياً، يُشرك الآخرين فيما سرق، فهو ببساطة: "ولد الناس"، و"اللاَّيْعمَّرها خيمة".

وهكذا تتحول السرقة، ومعها الريع، إلى سلوك اجتماعي مشروع، ما دامت الكعكة موزّعة بشكل عادل بين المتواطئين، وتنتقل "كُل ووكّل" من مجرد نصيحة متداولة، إلى وثيقة سياسية عُرفِيَّة، غير مكتوبة، تنظّم علاقة المواطن بالحاكم، والرعية بالراعي، والأخ بأخيه، واللص بزميله في المهنة.

اما أولئك الحالمون الذين يظنون أن الانتخابات تحسم بالصناديق، فإنهم يجهلون روح "كُل ووكّل"، وسريانها في جسد المواطنين السقيم؛ ففي كل حملة انتخابية، يجتهد المرشحون في تحويل الجملة من مجاز إلى واقع، وتردد حملاتهم الخفيةُ: «اجعل صوتك لنا، وستنال شيئاً مما سخَّانا به الله مما سنأكله».

 ولهذا السبب، بات طرح سؤال: «هل يوجد لدينا فساد؟» غباءً، إذ العاقل من يسأل: «هل بقي بيننا أحد لم يأكل، ولم يؤكِّل؟»؛ فنحن شعب كريم، نؤمن بمشاركة كل شيء، حتى ما لا يجوز مشاركته.

 وهكذا يتحول الوطن من مشروع مشترك إلى مائدة كبيرة، فوقها صنوف مما يؤكل منه: المشاريع، الصفقات، الأوهام، المبادئ، وحتى الخيبات. والجميع يأكل، دون أن يشبع أحد، إذ الجوع ليس لحاجة الجسم إلى الطعام، إنما هو جوع للسلطة والجاه، والحضوة والنفوذ، والمصلحة والمنفعة.

 ولهذا، فإن "كُل ووكّل"، ليست جملة عابرة تلوكها ألسن المغاربة وحسب، بل هي نظرية اجتماعية متكاملة، وفلسفة لإدارة الدولة والمجتمع، وأسلوب حياة بأكملها.