أحمد بيضي - خنيفرة / جديد انفو
 
من أجل فتح خصوبة وأسرار ومذكرات نهر أم الربيع، والمتخيل والقدسي في جريانه وطقوسه، وما ألهمه من أشعار وأساطير وكتابات وحكايات وانفعالات فطرية، نظم “مركز روافد للأبحاث والفنون والإعلام” بخنيفرة ندوة هامة، شارك فيها باحثون ومعنيون بالموضوع، الأساتذة المصطفى فروقي، لحسن رهوان والمكي أكنوز، وقام بتسييرها الدكتور محمد حدري، وقد عرفت حضورا متميزا ونوعيا من مختلف الأطياف والمكونات المجتمعية، حيث افتتحت بدقيقة صمت ترحما على الفنان الأمازيغي الغازي بناصر الذي لقي مصرعه في تسرب لغاز البوتان، بعد أن انتهى به عمره إلى بيع الحلزون (البوبوش) وهو من كبار رموز الأغنية الأمازيغية، الذي سجل له القسم الأمازيغي بالإذاعة المغربية ما يفوق 52 أغنية.
 
وبينما افتتحت أشغال اللقاء بكلمة للشاعرة نعيمة قصباوي، باسم مركز روافد، والتي خللتها بقصيدة حول الماء، تناولت فيها قيمة هذه المادة الحيوية وما شكلته، على مر العصور من عصب الحياة، وكيف أن كل الحضارات العظيمة قامت على ضفاف الأنهار والبحيرات، وكان التحكم في مصادر الماء عاملا للاستقرار، ولإنشاء القرى والمدن والإمارات والممالك، نظرا لما حظيت به هذه المادة الحيوية من تقديس كبير، وما نسجت حولها من حكايات وأساطير، وما تراصت على ضفاف مجاريها من أضرحة وزوايا لمتصوفة عُرفوا بكراماتهم، ومن هنا تأتي أهمية الندوة، تضيف كلمة المركز، في أفق عقد ندوة وطنية كبرى بشراكة مع مؤسسات البحث الأكاديمي.
 
وقبل عرض شريط وثائقي حول نهر أم الربيع ومحتوى الندوة، وهو من فكرة مركز روافد وإخراج الإعلامي عز الدين كايز الذي أبدع في تصويره وتوضيبه، بتقنية نالت استحسان وتقدير الحضور، كان للدكتور محمد حدري حضوره الثقافي المتميز في تسيير وتقديم الندوة، مستشهدا بأقوال عدد من الفلاسفة (باشلار مثلا) حول الماء، وبسر إلهام نهر أم الربيع في تطوير الأغنية الشعبية من “زيانية” المنبع إلى “عيطة” المصب، مبرزا قدسية الماء في الحياة باعتباره المادة التي تتجاوز ما يعتبرها موضوعا فيزيائيا إلى كونها رمزا ثقافيا، وقد مرت الندوة في جو من التفاعل القوي من لدن الحضور الذي أجمع على متعة اللقاء رغم لعنة الحيز الزمني الذي كبح تحلق المشاركين.
 
من جهته، تناول ذ. لحسن رهوان في ورقته التاريخية، مجال نهر أم الربيع، كوثيقة تاريخية، وسؤال حضوره في جبل الأطلس المتوسط ومنطقة فزاز، وفي الثقافة المغربية، بينما تطرق لقيمة ذاكرة نهر أم الرَّبيع، وتسميته المتنقلة من أم رْبيع، وانسيفن، وأسيفن اناتيس، أسانا، إلى أم الرَّبيع، وهو من الأنهار المغربية ذات التاريخ العميق الذي جعل منه خزانا للتراث، مشيرا إلى غنى منطقة فزاز التاريخية بالماء، ومستحضرا لعدد من الأساطير الشهيرة، مثل أسطورة “أطلس” كنموذج، وإلى حين حدود القرن العشرين ووجود الاستعمار الفرنسي، وما جاء في الكتب الاستعمارية من أوصاف ومخططات بشأن نهر أم الربيع.
 
كما تطرق المتدخل، ذ. لحسن رهوان، إلى الكتابات التي تناولت موضوع النهر المذكور، على اختلاف حقولها المعرفية، التاريخية، الجغرافية، إلى جانب ما جاء في أدب الرحلات والفقه والكتابات، الإغريقية منها واللاتينية (بطليموس، بلينيوس، سولان…)، وفي الأصول المصدرية العربية الإسلامية (البكري، الإدريسي، الحميري، ابن خلدون…)، فضلا عما خصه رحالة الغرب باهتمام خاص ( مارمول كربخال، شارل دو فوكو..)، قبل تعمق المتدخل في ما يمثله هذا النهر من حمولة تاريخية وثقافية التي بها يمثل إرثا حضاريا لارتباطه الروحي والمادي بالإنسان وتأثيره في مجريات الأحداث السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، على المستويين المحلي والوطني.
 
ومن جهته انطلق ذ. المصطفى فروقي من عنوان “أمّ الرّبيع: الكرامة الصوفية وعوالم الرّمز”، حيث تناول من خلالها المحكي الصوفي الشفهي والمدوّن، خصوصا المتعلّق منها بأولياء عاشوا ودُفنوا على جنبات هذا النهر، وخصوصا الولي الصالح “سيدي علي أوبراهيم” و”محمد الكبير الناصري” ب “تامسكورت” ثم “أبي يعزى” ب”تاغية”، وإن عاش بعيدا عن النهر لكن محكياته مرتبطة بالمجال الطبيعي الذي يخترقه، هذا وبعد استعراضه لجملة من المحكيات الخارقة المنسوبة لهؤلاء الأولياء والوقوف على مختلف الرموز التي تعجّ بها (القصب، الأسماك، الأسود، القناجر، الدّفلى اللبلاب…)، قتم المتدخل بتحديد معنى الكرامة بكونها حكاية تقص حدثا خارقا وفوطبيعيا يصدر عن شخص عادي فيكون سببا لرفعه من حالة شخص عادي إلى مرتبة أسمى هي المرتبة القدسية.
 
وفي ذات ورقته، انتقل المتدخل، ذ. المصطفى فروقي، إلى طرح إشكالية المنهج في مقاربة هذا المتن، مشيرا إلى كون المقاربات النفسية والسوسيولوجية والتاريخية، التي كان قد اشتغل عليها، قد غيبت، على أهميتها، مرجعية الكرامة الداخلية وقصديتها الخاصة المتمثلة في القدسية، وبما أن الأسطورة، كما يرى ذلك عالم الأديان “مرسيا الياد “تعبّر عن حقيقة مطلقة لأنها تحكي تاريخا مقدّسا وتصبح بذلك نموذجية، أي قابلة للتكرار، وبما أن الكرامة تروي حضور المقدس في شخص أو في شيء فإنها على الأقل هي محاكاة للأسطورة، انطلاقا من النماذج التي تطرق إليها المصطفى فروقي في مداخلته المبنية على البعد الصوفي وعوالم الرمز.
 
أما الباحث في الفن والشعر الأمازيغيين، ذ. المكي أكنوز، فاختار مداخلته من زاوية حضور الماء في الشعر الأمازيغي، أو ما وصفه ب “ديوان إيمازيغن” الذي يعبر بكل صدق عن هموم الأمازيغ، و يترجم أحاسيسهم ويصور أنماط عيشهم و يثير واقعهم المعاش، حيث فيه يصوغ الشعراء (إنشادن، إمديازن) عواطفهم وانطباعاتهم وأفكارهم وتصوراتهم للحياة، ولمختلف القضايا المرتبطة بهم، في قالب فني رائع يجمع بين جزالة الكلمة ورصانة المعنى وعمق الدلالة وبلاغة الأداء وجمالية اللحن، حيث وظف الشعراء الطبيعة بمختلف مظاهرها في الموضوعات الشعرية المختلفة كالمديح، والوصف، والهجاء، والعتـاب، والاسـتعطاف، والحكمـة، والحنين، وقد احتلت تلك الطبيعة مكانًا بارزًا في هذه الأغراض، وانطلاقًا من تأثر الشاعر ببيئتيه وطغيان الطبيعة عليه.
 
وارتباطا بمضمون مداخلته، تطرق ذ. المكي أكنوز إلى ما يوجد من “مائيات” في الأغراض الشعرية عموما، حيث رحل بالقاعة عبر مجموعة من القصائد التي استحضرت الطبيعة المائية، والحنين الذي يمتاز بالعاطفـة الصادقة والأحاسيس الحزينة المتأججة كجريان النهر، إلى جانب ما تغنى بالاخضرار والخصوبة، وتشبيه النفس بالنبع الغزير الذي لا ينضب ماؤه، ولا ينفذ عن تزويد الآخرين بالماء، حيث الشاعر يعبر على قدرته على العطاء المدرار، مع ما جاء في عدة أشعار من رمزية للماء والنبع والنهر، حيث يتضح جليا أن الشعر الأمازيغي، يضيف المتدخل، يظل من أرقى مراتب الهمس الوجداني، لبلوغ منتهى البيان بلغة التصوف المطبوع بالمعنى والرؤية الشاعرية.