يتجدد عند كل دخول مدرسي موضوع جودة التعليم,مما يجعله موضوعا مناسبتيا بامتياز في الوقت الذي ينبغي أن يكون فيه من الانشغالات الأولى للدولة على طول السنة,لا بل على طول السنوات و ذلك بإشراك مختلف الفاعلين التربويين و الجمعويين.
غير أن المثير في قطاع التربية الوطنية في عهد حكومة بنكيران(كما هو الشأن لباقي القطاعات التي تتجه من سيء إلى أسوأ) هو تزايد حدة لهجة و جرأة المسؤول الأول عن القطاع اتجاه رجال و نساء التعليم,فوزير التربية الوطنية يكاد لا يفوت فرصة سانحة أو غير سانحة لتوجيه سهامه لهذه الفئة و تحمليها المسؤولية فيما آلت إليه أوضاع التعليم ببلادنا.
و إذا كانت خرجات الوزير « مفهومة » باعتبارها محاولات للترويح عن النفس و التهرب من مسؤولية تردي أوضاع التعليم خاصة عندما يجد نفسه في وضع محرج أمام أسئلة مؤرقة تتعلق بتقهقر القطاع سنة بعد أخرى,وهو ما يجعل تعليق فشله على الأستاذ أمرا « مقبولا » و مخرجا لمن لا مخرج له(أي الوزير),لأن المتهم الرئيسي في أي قضية كيفما كانت غالبا ما يتشبث بمبررات واهية و يرمي باللائمة على غيره لعل ذلك يسعفه على الخروج من ورطته.
قلت إذا كانت هذه الجرأة مفهومة من الوزير للأسباب التي وضحنا,فإنه من غير المقبول أن يخرج رئيس الحكومة هو الآخر ليعزف نفس المقطوعة,مقطوعة الأستاذ هو المسؤول,في حين المفترض فيه أن يقول خيرا أو يصمت كما تحثه مرجعيته على ذلك,و في حالة العكس,أي في حالة إصراره هو و وزيره على تحميل الأساتذة مسؤولية تأزم الأوضاع التعليمية فما عليهما إلا أن يبينا للمواطن تجليات هذه المسؤولية عملا بمبدأ « البينة على من ادعى » بالحجج و البراهين المقنعة المستقاة من الواقع و ليس مجرد الاكتفاء بإطلاق الاتهامات المجانية.
كل الذي تقدم يدفعنا إلى طرح السؤال التالي:من هو المسؤول الحقيقي عن تردي أوضاع التعليم بالمغرب؟
الحقيقة أنه لا يخلو ميدان من الميادين من المقصرين و المتكاسلين,الانتهازيين الذين لا يهمهم سوى « رأس الشهر »,في الصحة و الدرك و الأمن و الجماعات المحلية و البلديات…و ما التربية الوطنية-طبعا- بخارجة عن هذه القاعدة,إلا أن هذا لا يعني كذلك خلو هذه الميادين من الشرفاء,النزهاء الذين يؤدون مهامهم على أحسن وجه,وبالتالي فتحميل مسؤولية تردي قطاع ما « لكل » الفئة العاملة فيه هو عين العبث و منبته الرغبة في الانتقام و الكراهية غير المبررة و الأحكام الجاهزة,إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال وضع العاملين بمجال ما في سلة واحدة و إلا فإن هذا المنطق السخيف يقتضي أن يكون كل الوزراء فاسدين و كل رجال الدرك فاسدين,و كل العسكريين فاسدين و كل رجال و نساء التعليم فاسدين و كل عمال النظافة فاسدين و كل الصحافيين…و قس على ذلك ما شئت من القطاعات.
إن الأدلة و المعطيات الموجودة على أرض الواقع البعيدة عن الكلام الفارغ الخالي من أي دليل تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن عكس ما يقوله بلمختار و يؤكده بنكيران هو الصحيح,أي أن المسؤول الأول عما تعيشه التربية الوطنية هي الوزارة و الوزارات ذات الصلة كوزارة الوظيفة العمومية و وزارة المالية,و من يقول العكس فعليه أن يوضح لنا أين تتجلى مسؤولية الأستاذ في اكتظاظ القسم بأكثر من خمسين تلميذا؟عليه أن يبين لنا أين يتحمل الأستاذ المسؤولية في غياب الموارد البشرية الضرورية,حيث نجد أساتذة يكلفون بتدريس مواد غير مواد تخصصهم الأصلية فيما يسمى زورا و بهتانا بالمواد المتآخية(موضوع سنعود إليه لاحقا) أو أسلاك غير أسلاكهم؟ثم يسألونك عن جودة التعليم و لا يسألونك عن إرهاق الأستاذ؟ !
و حتى لا نتهم بالأنانية و أننا لا نفكر سوى في مصلحتنا و هي التهمة الجاهزة عند السيد الوزير,نطرح التالي:من يحمل المسؤولية للأستاذ عليه أن يثبت مسؤوليته في إتعاب التلميذ بمقررات طويلة جدا و لا فائدة في أغلبها,هل الأستاذ هو واضع المقررات و البرامج؟من يصدر مذكرات تعسفية و تكليفات غير قانونية تلزم الأستاذ بتدريس مستويات مختلفة(هناك أساتذة مكلفون بتدريس الجذعين المشتركين العلمي و الأدبي و الأولى باك آداب و علوم و مستويات من الإعدادي),فكيف يحلمون بجودة التعليم مع استمرار هذه المهازل؟و هل هي فعلا تهمهم؟
يحملون المسؤولية للأستاذ في كوارث التعليم زاعمين بأنه غير كفء مع العلم أنهم(الوزارة و من معها) هم الذين كونوهم و هم الذين وظفوهم,و المضحك هم من يكلفهم بتدريس أسلاك غير أسلاكهم و مواد غير موادهم,فإذا كانت تنقصهم الكفاءة,فلم هذه التكليفات؟ !!
الطامة إذا هي إن كانت الوزارة على علم بهذه الأمور التي ذكرنا و التي لا تمثل سوى قطرة من بحر و لا تحرك ساكنا و هذا هو المرجح,و أم الطوام هو إن كانت لا تعلم,إذ لا يعقل أن يكون المسؤول الأول عن القطاع جاهلا بكل هذا.
الواضح إذا أن الحلول التي تنهجها الوزارة و معها باقي الفاعلين(الوزارات)هي حلول ترقيعية تسعى إلى تحويل الأستاذ إلى مجرد حاضن للتلاميذ حتى لا يثيروا الشغب و المظاهرات في الساحة أو الشارع,و لا يهمها شيء من جودة التعلمات و لا حتى محتوى البرامج « المهم غير حضيهوم و خرجهوم من الساحة »,حتى و إن تعلق الأمر بحكي القصص و النكت,أ فبهذا تتحقق جودة التعليم؟
إن إصلاح قطاع التربية الوطنية ليس بالأمر المستحيل لو توفرت الإرادة الحقيقية عند المسؤولين المباشرين عن القطاع,أي الوزارة,لأن إصلاح أي قطاع و تنظيفه يكون من الأعلى و ليس من الأسفل تماما كما تصلح و تنظف الأدراج,و عليه فمن المشين تحميل الأستاذ المغلوب على أمره و الذي يعتبر الحلقة الأضعف المسؤولية فيما يعيشه القطاع من أوضاع متأزمة.
إصلاح التعليم و تحقيق الجودة لا يمكن أن يتم إلا بتوفير الموارد البشرية الضرورية و توفير البنية التحتية اللازمة و مراجعة البرامج و تحفيز التلاميذ و الأساتذة على حد سواء من أجل بذل الجهد و العطاء,وهي إجراءات لا نعتقد أن الملايير التي هدرت و تهدر في برامج تافهة غير كافية لتحقيقها و تلبيتها,بل تحقيق أكثر منها,و هي الإجراءات التي لا يتحمل الأستاذ ذرة مسؤولية في تأخرها و عدم تنزيلها على أرض الواقع,حيث تقتصر مهمته في الحضور في الوقت و تجنب الغياب غير المبرر و أداء واجبه على أحسن ما يرام و هناك طبعا آليات لمراقبة ذلك.
إننا نجزم بأن الوزير و رئيس الحكومة عندما يصرحان بأن الأستاذ هو المسؤول عن تراجع قطاع التربية الوطنية,فهما في قرارة نفسيهما يعرفان أنهما على خطأ,إلا أن تبرير فشلهما في تدبير القطاع ليس له مخرج سوى رمي الكرة إلى ملعب الأستاذ و كأنه المعني بتوفير اللوجستيك و التجهيزات و بناء الحجرات الدراسية و تخصيص ميزانية مهمة لمواجهة الخصاص المهول في الموارد البشرية… !!
إن إصلاح التعليم هي قضية و رهان وطني ربحه يعني ربح الوطن و خسارته يعني خسارة الوطن و ذلك بعيدا عن الشعارات البراقة و الاتهامات الجاهزة و الضحك على الذقون و التهرب من المسؤولية و ترويج الأكاذيب التي لم تعد تقنع أحدا و تجنب الاتكالية التي تعد معضلة في هذا القطاع,فالأستاذ الناجح في نظرهم هو ذاك الذي يحل مشاكله مع تلامذته دون اللجوء إلى الإدارة,يعني هو الذي عليه حل مشاكل الاكتظاظ و عدم الاستيعاب و ضبط القسم و الشغب و الوقت…مع خمسين تلميذا و يترك المدير في راحة مع العلم أن تلك مهمته,و المدير الناجح هو الذي يدبر الخصاص في مؤسسته بإسنادات لا تخدم جودة التعليم التي ينفخون بها رؤوسنا صباح مساء,حتى أن بعض المؤسسات-و يا للغرابة- أغلب أساتذتها يدرسون موادا و أسلاكا غير موادهم و أسلاكهم الأصلية,إذ لا نبالغ إذا قلنا بأنه سيأتي علينا زمان يقوم فيه أستاذ واحد بتدريس كل المواد و القيام بمهام الإدارة و الوزارة.
المدير الناجح عندهم هو الذي يجد الحلول لمشكل غياب الحجرات الدراسية و لو كلفه الأمر توجيه التلاميذ خارج المؤسسة إلى مدرسة ابتدائية أو دار للشباب أو ناد نسوي,و هي اجتهادات و تصرفات غير تربوية بتاتا و خطيرة حتى على أمن و صحة التلاميذ,و مع ذلك يسمونه مديرا ناجحا لأنه يحل مشاكله دون اللجوء إلى النيابة,ثم يسألونك عن جودة التعليم؟
و النائب الناجح هو الذي يحل مشاكل نيابته دون اللجوء إلى الأكاديمية و لو بتكليفات غير قانونية و مذكرات تعسفية كتلك المسماة ب « استكمال الحصة »,أي أن أستاذ الإعدادي مثلا عليه استكمال سقف الساعات القانونية,و إذا كانت بنية السلك الإعدادي بالمؤسسة التي يعمل فيها لا تسمح بذلك,فإنه يكلف بتدريس مستويات من الثانوي التأهيلي,و إن بقي شيء من 24 ساعة,عليه(الأستاذ) أن يتوجه إلى أقرب كتاب قرآني أو دار لمحو الأمية لاستكمال الحصة !
على النائب أن يجد الحلول لكل المشاكل التي تتخبط فيها نيابته و لو بحلول مضحكة أحيانا مبكية أحايين أخرى,المهم ألا يلجأ إلى الأكاديمية التي عليها هي الأخرى ألا تلجأ إلى الوزارة و أن تترك الوزير على راحته و إلا وصفت بالفاشلة.
هذه الاتكالية هي التي « خرجت على التعليم » و هي من أسباب ما يعانيه من تخبط,ففي الوقت الذي يجب فيه أن يتحمل كل واحد مسؤوليته و أن يجتهد لإيجاد الحلول نجده يرمي بالمسؤولية إلى من هو أسفل منه في نظام تراتبي يوجد في أسفله الأستاذ « الذي لا يجد من يرمي إليه بالمسؤولية »,فالأستاذ-كما وضحنا سلفا- ليست مهمته إيجاد حل للإكتظاظ في القسم و ما يصاحب ذلك من إهدار للوقت و بذل مجهود أكبر لضبط القسم,و المدير ليس من مهامه توفير الحجرات أو البحث عنها خارج المؤسسة,و النائب مهامه معروفة و الوزارة مهامها معروفة و الحكومة وظائفها و واجباتها معروفة,و عندما تتداخل المهام و الوظائف,و عندما يوصف الأستاذ أو المدير أو المفتش أو النائب بالفاشل فقط لأنه لا يقوم بمهام ليست من مهامه,و على العكس عندما يوصف هؤلاء بالناجحين,فقط لأنهم يجدون الحلول للوزارة و الوزارات المعنية و يقومون بمهامها نيابة عنها و لو على حساب الجودة فانتظروا الكارثة.