رافق التحول الذي عرفه المجتمع المغربي، من مجتمع البساطة والتلقائية - يوم كانت شعلة النار تتنقل من كانون إلى آخر و(الخميرة البلدية) من عجينة إلى أخرى- إلى مجتمع لا لغة تتحكم فيه غير لغة المادة ، تحول في نسج العلاقات الاجتماعية ، فإقدام الشاب في زمننا هذا على الزواج مثلا، غالبا ما يتحكم فيه شرط كون الزوجة تمتلك دخلا قارا من الدولة أو القطاع الخاص، يساعده على مواجهة تكاليف الحياة التي أضحت صعبة في ظل تحكم لغة تقديم المقابل المادي لقضاء أي حاجة من الحاجات اليومية.
وقد وازى هذا التحول، منظور جديد لتحديد علاقة الزوج بزوجته ، فمدونة الأسرة الجديدة، تسمح بتحرير عقد يضاف إلى العقد الرسمي للزواج، يتفق فيه الطرفان على تقنين ممتلكاتهما وفقا لمساهمة كل طرف منهما في ملكية ما.
هذا التقنين في حد ذاته ، يعتبر إيجابيا لحماية حقوق كل طرف خصوصا لما يكتب خلاف يفضي ربما لفراق .
وعودة منا لما قبل هذا التاريخ ، لزمن ما قبل صدور المدونة الجديدة ، نتساءل عن نصيب أمهاتنا اللواتي لم يكن يمتلكن دخلا شهريا من الدولة أو من قطاع خاص ؟ مقابل قيامهن بأعمال شتى في تدبير شؤون البيوت؟
أمهاتنا كن يلعبن أدوارهن الأسرية بشكل منظم ، تختلف باختلاف الفصول واختلاف الظرفيات .
فالأم بعدما تنتهي من تقديم وجبة الغذاء لزوجها وأطفالها ، تحضر موعدا لصديقاتها اللواتي يحضرن لمنزلها ليس لوليمة أو نميمة أو فرجة على فيلم مكسيكي تافه ، بل لجلسة عمل :
اثنتان منهما ذواتا أدرع قوية مفتولة تناولان (المنسج )، تمسكان (بالمدرتين )لتنهمكا على دق خيوط الصوف لتصبح زربية متماسكة بألوان وزخارف جميلة .
وثلاث منهن بجانب المنسج يعددن خيوط الصوف وهن يرددن أغان في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم والصبية يتحلقون حولهن يتابعون أو يلعبون في عرصة أمام المنسج.
يستمر هذا العمل في جو حميمي جميل إلى موعد الغروب لينصرفن لحال سبيلهن حيث يضربن لهن موعدا بعد صلاة عصر اليوم المقبل.
تستمر العملية أياما وأياما ، إلى أن تكتمل الخرقة الصوفية ليسلنها من المنسج كالمولود الجديد، بعدما تتوضأ المرأة وتحضر ماء تغطس فيه المدرة وتدق بها آخر خيوط الخرقة بعد إخلاء المكان من الصبية خصوصا إذا كانوا ذكورا، مرددة :
أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ،أنا شربتكم (بالما وغدا يوم القيامة تشربوني).
ثم تقطع بسكين حاد ما تبقى من المنسج والنسوة يرددن:
كلما في منسجي بالصلاة على النبي.
الخشب في منسجي بالصلاة على النبي.
أسلاس في منسجي بالصلاة على النبي.
تيمناطيط في منسجي بالصلاة على النبي.
التواغض في منسجي بالصلاة على النبي.
المداري في منسجي بالصلاة على النبي.
النيرة في منسجي بالصلاة على النبي.
الزوارز في منسجي بالصلاة على النبي.
الجبابيد في منسجي بالصلاة على النبي.
الكصب في منسجي بالصلاة على النبي.
تنتزع الخرقة الصوفية وتطوى بعناية، وتقدمها الزوجة جلبابا لزوجها أو ولدها ، أو تخصصها زربية لتجهيز أثاث بنتها المقبلة على الزواج، أو غطاء يلتحف به الأبناء وقت القر، لتعاد نفس العملية في منزل أم أخرى ، منزل جزت فيه صوف الأغنام وغسل ونقي من الشوائب ولون بألوان طبيعية زاهية وأصبح جاهزا لدخول أطوار أخرى.
أمهاتنا كن بجانب عنايتهن بالزريبة الرسمية المتكونة من الأبقار والأغنام ، يعتنين بزريبة أخرى موازية، متكونة من دجاج و قنيات ... يستغللن ما جادت به الزريبة من بيض أو قنيات لتلبية طلبات المنزل أحيانا، وفي أحايين كثيرة يبعن المنتوج ، ويخبئن الربح حتى يصبح محترما ليشترين به الحلي أو الملابس الجميلة أو الملابس الداخلية أو أدوات الزينة ، لا ليلبسنها أو يتزين بها في مناسبة من المناسبات، بل لتجهيز بناتهن اللواتي سيتزوجن بعد حين لأنهن يتحاشين تقديم طلبات شراء هذه اللوازم لأزواجهن.
أمهاتنا كن يخرجن فجر أيام الحصاد ليلتقطن السنابل وراء الحصادين ،ويعدن قبل إشراقة الشمس لمنازلهن لتنقية حبوب القمح من العوالق وطحنها بعناية وعجن الطحين ليحضرن وجبة فطور لفريق العمل في الحقول، وفي أحايين كثيرة ينخرطن ضمن هذا الفريق بحملهن المناجل ومباشرة عملية الحصاد ، وفي أوقات أخرى يدعمن الفريق معنويا خصوصا في فترة شدة حرارة الشمس- فترة تخار فيها قوة الحصادين والراحلة على السواء- بمشاركة الرجال ولو بصوت خافت بترديد أغان مشهورة :
إيلا حمات الكايلة / تحما الصلاة على النبي
ويلا عيات الراحلة / ندهو بالله والنبي.
أو تزويد معد الحمولة بأدرع من السنابل التي تنقل بواسطة دابة إلى البيدر من قبل شاب يافع يقظ ، يحرص على نقل الحمولات دون أن تتعرض لحادثة سقوط لكونه يعلم أن سقوطها سيعرضه لوابل من الاستهجان كالتشكيك في رجولته، من طرف فريق العمل .
ينتهي موسم الحصاد فينهمكن في تنقية القمح وغسله وطحنه لإعداد مختلف المشتقات من كسكس، (محمصة )... لتخزينها للأوقات العصيبة.
أمهاتنا ، في موسم جني الزيتون ، وبعد إعلان القبيلة عن تاريخ بدء العملية، يخرجن ما لديهن من الخزين : شحم وتمر وقمح وزيت وعجائن...استعدادا لاستقبال هذا الضيف الجميل والدافئ بطقوسه والقاسي بعملياته التي تدور رحاها في جو بارد برودة قطع الماء الجامد الجاثم فوق مستنقع تجمعت فيه مياه الأمطار.
فجرا بعد إعداد الحساء المعد بما جلبنه من الغابة من لفت و(وركية )، يكون الرجال على موعد مع هذه الوجبة لينصرفوا للفدادين لتسلق أشجار الزيتون السامقة بعصيهم التي ما تكاد حبات الزيتون تتحسسها إلا وانفصلت تلقائيا عن حواملها خوفا وارتجافا من أن تتلقى ضربة قاسية تقسمها إربا إربا ، أما النسوة فقد ينشغلن بإعداد ما يلزم للعمال من فطور وشاي وغذاء، هذا الأخير الذي يعددنه غالبا بكل ما جففنه من خضر في فصل الصيف: طماطم ، (ملوخية ، كرعة )...وما جادت به الزريبة الفرعية من دجاج وقنيات.
وما أن يحين وقت الضحى حتى تصلن محملات بالمأكولات والمشروبات لينهمكن في التقاط حبات الزيتون المتناثرة .
ويحدث وهن في هذه العملية أن يغالطن الرجال بحفر حفر صغيرة ودفن حفنات من الزيتون،أو يتناسين عنوة تمشيط رقعة من رقع الفدان الممتلئة بحبات الزيتون المتناثرة ليعدن إليها وللحفر المطمورة بعد انصراف الرجال مساء لالتقاط وجمع الزيتون، الذي يكلفن به أحد أبنائهن لبيعه وإتيانهن بالدراهم .
إن مغالطة الرجال في هذه العملية لا تحمل معنى قدحيا لكون الرجال يغضون الطرف عما تفعله النسوة، لأنهم مقتنعون أن الدريهمات التي ربحنها ، سوف يخصصنها لشراء بعض لوازم الزينة - يتحاشى الرجال شراءها - لهن أو لبناتهن ،عند العطار الذي يتجول عبر القصور كالحناء والمسواك والكحل ، أو يسددن بها أجرة حداد – سكاك – أو ( رباط )، أصلح لها قصعة أو (طاجينا ) انشطرت أطرافه وحافظت عليها إلى أن يحل هؤلاء الصانعون البارعون ويستقروا بفم القصر معلنين عن وصولهم لتلقي الأواني الضائعة واستقبال ما تجود به بعض العائلات من شاي ومأكولات.
أمهاتنا يعلن فرحتهن الكبرى لما يشتري رجالهن ملكا: فدانا أو بهيمة إو يبيعون محصولا يخصصونه لأداء مناسك الحج، هذه الأخيرة التي كانت حكرا عليهم فقط ولا يبقى للنساء منها غير ذلك الاستقبال عند العودة لما يحملنهم على ظهورهن، فرحات بسلامة العودة، من باب المنزل إلى الصالة المعدة لاستقبال المرحبين والمباركين.
هذا غيض من فيض مما قدمته أمهاتنا لذلك المجتمع البسيط في عيشه وتعايشه والقوي بمبادئه والمتدفق بطهر ونبل علاقاته.
وعلاقة بمقدمة هذا النص تصبح الأسئلة التالية مشروعة:
أليست أمهاتنا جزءا أساسيا ، بل محورا ترتكز عليه التنمية الاقتصادية لهذا المجتمع؟
أليس من حقهن اقتسام ما يملكه الرجال معهن خصوصا لما يكتب الفراق؟
ألم يرتكب المجتمع الرجولي جريمة إنسانية في حق الأمهات، اللواتي لا يخرجن من بيوت أزواجهن عندما يكتب الطلاق ، غير تلك الصناديق الخشبية التي أتين بها يوم زفافهن؟
إن الجواب عن هذه الأسئلة جلي وواضح وتصحيح ذلك الوضع تجاوزه الزمان ، ولعل ما بوسعنا أن نفعله اليوم هو دعواتنا بالرحمات لهن إن كن قد قضين نحبهن ودعواتنا بالمغفرة لآبائنا الذين لم تكن لهم نية التحكم والتسلط والتجبر بقدر ما كانوا طموحين لبناء أسر متينة أساسها العفة و الأنفة والكبرياء.