للطبيعة نواميسها التي تسير بها كوكب الأرض ، وهي في ذلك عادلة في توزيع خيراتها وغضبها على الجهات الأربع للكوكب رغم ما قد يبدو لنا نحن البشر أنها تظلم أو تجود على هذا وتبخل على ذاك ، والمغرب كغيره من البلدان لا يشكل الاستثناء ، قد تجود عليه الطبيعة وقد تسلط عليه غضبها ، والمفروض أن يكون وبعد أزيد من نصف قرن على استقلاله جاهزا لمواجهة الكوارث الطبيعية من زلازل وفيضانات وربما أعاصير وبراكين ،إذ لا يستقيم أبدا أن تلقي دولة مستقلة باللوم على الطبيعة وتضع يدها على خدها متقاعسة عن دورها في مواجهة تبعات غضبها وإغاثة سكان تقول أنهم تهوروا و ألقوا بأنفسهم إلى التهلكة .
ما عرفته المناطق الجنوبية للمغرب من فيضانات مهولة ابتداء من 22 نومبر إلى غاية الثلاثين منه والتي أودت بحياة أكثر من 50 شخصا ، 32 منهم قضوا في يوم واحد وفي مدينة كلميم وحدها والباقي موزعين على مدن وقرى وبلدات جاورت الحدود الجزائرية ، إضافة إلى خسائر مادية تعني الكثير للأحياء الذي أصبحوا يبيتون في العراء بعدما جرفت السيول منازلهم/أكواخهم وأثاثهم وبهائمهم ومحصولهم الفلاحي وعزَلَتْهم عن باقي التراب المغربي
كارثة طبيعية بكل المقاييس ضربت منطقة من المغرب المنسي ، منطقة منكوبة أصلا ومقصية من كل مشاريع النمو والنماء والتنمية التي تروج لها الدولة ،سكانها تضرروا من كارثة طبيعية لا حول ولا قوة لهم أمامها ، لكن ما حز في أنفسهم أكثر هو تعاطي الدولة المغربية الذي ولد لديهم الشعور بالقهر والظلم وبأنهم ليسوا سوى رقم إضافي في الانتخابات والاستفتاءات
هذه الفيضانات بالإضافة إلى ما أحدثته من خسائر بشرية ومادية فإنها كشفت لنا حقائق أخرى كانت الدولة بكل مؤسساتها تنكرها أوعلى الأقل تبذل جهودها لتأجيل الكشف عنها، ومن سوء حظها أن الطبيعة لم تستشيرها وقررت أن تضع أوراق الجميع فوق الطاولة وتكشف بالصوت والصورة عن حقيقة مغرب آخر لا علاقة له بالذي يروج له الإعلام الرسمي والتابعوعن طريقة تعاطي هذه الدولة مع الكوارث بشكل عام :
1_كشفت هذه السيول عن مغرب لا تزال شريحة مهمة منه تعيش حياة بدائية في أكواخ وأحياء عشوائية تنعدم فيها أبسط شروط السلامة والحياة الكريمة ، أحياء كاملة وبهذه المواصفات بنيت بموافقة السلطات المحلية وأمام أعين المقدمين والشيوخ _عَيْنَيْ رجل السلطة المغربي_ ،وعن بنية تحتية من طرق وقناطر هشة رغم حداثتهاجرفتها السيول في لحظات ، وهذا دليل واضح على أن الرشوة والمحسوبية هي الآليات التي تُدبر بها الصفقات العمومية . بعد هذه الكارثة الموثقة تخرج إلينا السلطات المركزية في شخص وزير الداخلية ليحمل المسؤولية للمواطنين الذين "اختاروا" البناء والعيش على ضفاف الوادي وليصرح بأن "العدالة الإلهية" تكفلت بعقابهم بدل كبير الدرك المغربي الذي توعد بمقاضاة من غامروا بحياتهم .
2_سبق لملك المغرب أن أعلن في خطاب له على إثر زلزال الحسيمة سنة 2004 بأن المغرب غير مؤهل لاستقبال الكوارث الطبيعية وبأنه قد حان الوقت ليعمل على ذلك ، لكن الذي حدث وبعد مرور 10 سنوات على هذا الاعتراف أن المغرب لم يبرح نقطة البداية في ما يتعلق بتعامله مع الكوارث التي ينص الفصل 40 من الدستور المغربي على كيفية مقاربتها : "على الجميع أن يتحمل بصفة تضامنية، وبشكل يتناسب مع الوسائل التي يتوفرون عليها ، التكاليف التي تتطلبها تنمية البلاد ، وكذا تلك الناتجة عن الأعباء الناجمة عن الآفات والكوارث الطبيعية التي تصيب البلاد"،لكن لا شيء مما ورد في الخطاب الملكي وفي الدستور شهد تنزيلا على أرض الواقع لأن فرق الوقاية المدنية تأخرت عن التواجد في المناطق المتضررة ،وحين تلقت الأوامر بالتحرك كان ذلك رفقة عدة مهترئة وناقصة عَوَّضَها رجالهابسواعدهم وظهورهم ، مروحية الدرك لم تحضر إلا في الشوط الثاني/الأسبوع الثاني من الكارثة لإغاثة سياح أجانب، أما مؤسسة الجيشفقد جاء تدخلهامتأخرا جدا ومحتشما_مروحيات فقط _ بعد احتجاج الساكنة وتصاعد التنديدات على صفحات الجرائد ومواقع التواصل الاجتماعي التي تساءل روادها عن دور الجيش المغربي إن لم يتدخل في حالة الكوارث وعن جدوى معداته المكدسة في مخازنه من خيام ومستشفيات ميدانية وقناطر متنقلة ، أما الإعلام العمومي وكعادته فقد سجل غيابه شبه عن مكان الكارثة مما اضطر نشطاءالمواقع الاجتماعية ومعه الإعلام الإلكتروني إلى تعويضه في مواكبة هذه الكارثة لحظة بلحظة بالاعتماد على صور وأشرطة وتقارير تصلهم من عين المكان كانت الموثق والشاهد على لحظة نقل جثامين الضحايا في شاحنة نفايات في نفس الوقت الذي تنقل فيه المروحيات سياحَ أجانب ..ودائما تحت ضغط الاحتجاجات ، أعلنت الدولة وعلى مضض مدينة كلميم منطقة منكوبة ، لكنه كان ولا يزال إعلانا سلبيا وجعل الجميع يتساءل عن جدواه مادام لم يحمل في طياته أي التزام بما يفرضه هذا الإعلان من عمليات الإجلاء والإنقاذ والخدمات الطبية وتهيئة الملاجئ والممرات الآمنة وتوفير أماكن للإيواء وتوفير المؤن الغذائية والإصلاحات العاجلة في المرافق العامة ودفن الموتى وإلى غير ذلك من المهام التي أشار إليها بوضوح المادة 61 من البروتوكول الأول لاتفاقية جنيف الخاص بإعلان المناطق المنكوبة
3_ إن كان تدخل أجهزة الدولة قاصرا ميدانيا فإن ردود أفعالها السياسيةلم تكن مختلفة، وهذا ما أبانت عنهكل مؤسساتها التي تعاملت مع الكارثة والضحايا وكأنهم من سكان الهونولولو ، الملك يستغرق في صمته ثم يطير إلى الإمارات العربية لمشاركة حكامها فرحة عيد "استقلالها"ويظهر في صور وهو يتسوق من أفخم الأسواق الإماراتية فيما فئة من شعبه تجرفها السيول وتستغيث ، رئيس حكومة صاحب الجلالة يلتزم حرفيا بأجندته ويقوم باستقبالات روتينية ، بعض وزراء حكومة صاحب الجلالة يحجون إلى المنتدى الدولي لحقوق الإنسان في مراكش ويلتقطون صورا على مائدة عشاء فاخر وهم في كامل الانسجام مع نغمات ورقصات من الفلكلور المغربي ولم تكن سوى كلومترات تفصلهم عن موقع الكارثة ، رغم الأصوات التي دعت إلى إعلان حدادا وطني على أرواح الضحايا صَمَّت الدولة آذانها رغم أنه أضعف الإيمان في حالاتٍ كهذه ،وهذا يعني فيما يعنيه، أن السلطات المغربية لا تُنَكِّسُ العلم الوطني ولا تؤجل مظاهر الاحتفال والابتهاج إلا حينما يتعلق الأمر بوفاة أحد أفراد الأسرة العلوية أو أحد أمراء الخليجأو حاملي النياشين ، أما الإعلام الرسمي الذي يسمونه زورا إعلاما عموميا وطنيا فإنه وبالإضافة إلى التغطية المخجلة واللامهنية التي قارب بها الكارثة فإن قناته الثانية لم تخلف موعدها الأسبوعي مع "شيخاتها" فيما يشبه رقصا على جثث الضحايا !!!!!!
مجموع ردود الأفعال السلبيةهذه شكلت استفزازا لكرامة الشعب المغربي _الذي يعرف جيدا كيف يتعامل الملوك والرؤساء وكل أجهزة دولهم عبر العالم مع النكبات التي تصيب شعوبهم_وأكدت له مرة أخرى أن هناك نصوصا في الدستور رُصع بها هذا الأخير لتزين واجهة المغرب الخارجية ليس إلا ، وهو ما يجعل السؤال التالي يفرض نفسه : هل يعتبر تعاطي مؤسسات الدولة مع مآسي هذا الشعب إجراء عقابيا على تنديده بسياساتها ومطالباته المستمرة بإسقاط الفساد والاستبداد وبربط المسؤولية بالمحاسبة وبحقه في الكرامة والعدالة الاجتماعية والديموقراطية ؟؟
حاصل القول ؛ إذا كانت السيول قد جرفت معها الإنسان والشجر والحجر فقد جرفت في طريقها أيضا هيبة دولة ومصداقيتها ومفهومها ككيان مستقل وكذلك إنسانية القائمين بشؤون مواطنيها .