مولود بوفلجة - تنغير / جديد انفو
البكالوريا أو الباك اختصارا كلمة سحرية تحمل كل معاني الرغبة و الرهبة و الأمل في النجاح والتخوف من الإخفاق و تعكس مجموعة من التمثلات الاجتماعية الايجابية عن المدرسة المغربية وشواهدها :الابتدائية و البروفي و الباك ،حين كانت طريقا للارتقاء و تعزيز المكانة الاجتماعية قبل أن تصبح المدرسة فضاء لتفريخ العطالة..امتحان الباك كان و لازال عندنا محطة مهيبة و مصيرية تغذيها عند التلاميذ رغبتهم في ولوج عالم الجامعات و المدارس العليا و الانفلات من قبضة الرقابة الإدارية اللصيقة ومن سلطة العائلة أيضا و تحيط بها إجراءات مقرونة بالخوف و القلق و الانتظارية والحيطة و الاحتراز كأننا في يوم الحشر و الحساب ،فتعيش الأسر جوا من التأهب و تسليم المصير للدعوات و الابتهالات لأن النجاح ينسب إليها و يكون فرصة للاحتفال و التباهي و الفشل عار لا ترضاه لنفسها ( ولد فلان جاب الباك تبارك الله عليه .. ولد فلان سقط مسكين...)لأن الأسرة في المجتمعات المتخلفة و على حد تعبير مصطفى حجازي ، تنازع المجتمع في ملكية الأبناء و في تحديد هويتهم مواطنيا..
أما الأساتذة ،و قد كنت و لازلت منهم ،فيخططون لانجازهم منذ بداية الموسم الدراسي و هم محكومون بالامتحان فيركزون على هذا الدرس دون ذاك لاحتمال أنه سيكون موضوع الامتحان و يكيفون البرامج و الحصص وفق احتمالات و توقعات الباك و يخصصون ساعات لكيفية التعامل مع الامتحان و كيفية ''التقاط النقط'' و تقدم نماذج من المواضيع الجاهزة التي تفي بالغرض ذاك لأنهم يختصرون نجاحهم في نجاح التلميذ في الامتحان فيكون النصر عظيما ''إلى طاح الامتحان'' فيما تم التركيز عليه من دروس، في تغييب واضح لشخصية المتعلم وميولاته و تأهيله اجتماعيا لمجابهة الحياة ،لأن الامتحان في الحقيقة ليس سوى وسيلة تقويمية من بين أخرى وهو محطة تكميلية للمسار الدراسي و ليس نتيجة نهائية له..و وظيفة المدرسة هي الأعداد للحياة و مسؤولياتها بتشجيع الإبداع و النقد و التفكير الحر و روح المبادرة... و ليس للامتحان فقط.
فالباكالوريا في بلادنا تمثل نموذجا واضحا لطبيعة الاختبارات المعتمدة و التي تغلب عليها أساليب التقويم التقليدية التي تركز على ثقافة الذاكرة و المعارف دون مساءلة للحاجيات الثقافية و الفكرية و الأخلاقية للمجتمع فتلامذتنا لا يمتحنون في التكنولوجيا مثلا و لا في الموسيقى و لا حتى في الإعلاميات.. و ربما الأمر يدخل ضمن مرامي المخزن في صنع الذاكرة و ترسيخ توجهاته الإديولوجية بتغيب النقد و المخالفة مما يجعل الكفاءة الاجتماعية منعدمة. و من تجليات ذلك تبخيس صورة الأدب و إفراغ برامجه من المحتويات الهادفة و جعل المواد العلمية نظرية بحتة لا تسمن و لا تغني من جوع..
و رغم كل ذلك فالهالة التي يحاط بها هذا الباك تجعل الفشل كفرا بالذات إلى درجة يعتبر معها الراسب نفسه غير جدير بالحياة مما يدفع بعض التلاميذ إلى الاكتئاب و القنوط والانتحار في بعض الأحيان لعدم الرضا بالذل و الهوان لأنه ترسخ في وعيه انه عند الامتحان يعز المرء أو يهان فلا مكان للإخفاق في منظومتنا التربوية والاجتماعية...
و للامتحان في مدن الهامش و في مغربنا الشرقي خصوصياته و إكراهاته الإضافية لعل أدناها الظروف المناخية التي يجتازه فيها التلاميذ من حر شديد و بعد عن المراكز الأمر الذي يعرضهم للإرهاق و التعب و عدم القدرة على التركيز، و في حال تعذر التحاق أحدهم بقاعات الإجراء التي نعرف جميعا حالتها و حال مقاعدها و نوافذها و ستائرها يكون مضطرا لشد الرحال إلى مدن بعيدة قاطعا مئات الكيلومترات للاستدراك و أي استدراك ...
و النجاح إن تحقق لأبناء مدن البعد فإنه يشكل بداية لرحلة الشتاء و الصيف نحو مدن الجامعات و المدارس العليا لتبدأ حياة ''التزوفير'' و تكوين الذات و الشخصية في ظل شروط الاغتراب و ضيق ذات اليد و البحث عن المأوى و المكابدة لإرضاء حاجة العقل بما اتفق من جاهز المعلومات و المعارف التي لا يلحقها التجديد على مر السنين ،و لإرضاء حاجة البطن بما اتفق من القطاني و المعجنات ،خصوصا أمام عدم استفادة الأغلبية الساحقة من المنحة في خرق صارخ لمجانية التعليم و في رغبة جلية لحصره بين فئة محصورة من المغاربة.وحرمان أولائك الذين يعلقون كل آمالهم على التعليم لانتزاع عائلات من الحاجة و العوز.
وتبقى ظاهرة الغش و الإبداع و التفنن فيها و مسايرتها للتطور الحاصل في مجال التكنولوجيا خير دليل على اختلال منظومة التقويم و المرجعيات المحيطة بها ،فالظاهرة لم تعد مقصورة على التلاميذ فقط بل انخرطت فيها بعض الأسر دعما و تشجيعا و حتى بعض الأساتذة من باب التغاضي و التساهل تارة ،و من باب الخوف و طلب السلامة تارة أخرى، فيتحقق تكافؤ فرص الغش في كل ربوع الوطن. فالغش في حقيقته هو تعبير من التلاميذ عن عدم اعترافهم بأهمية المعارف التي تقدم لهم و عن عدم إحساسهم بجدواها في الحياة اليومية و في تشكيل كيانهم الذاتي و هو في الوقت نفسه تهرب من المسؤولية و هذا ما يبرر امتداد الظاهرة لدى التلميذ حتى مراحل متقدمة من حياته في كليات القانون و الشريعة و الطب و الامتحانات المهنية فأينما وليت وجهك فهناك الغش و التنصل من الواجب.
مجرد وجهة نظر و النقاش مفتوح..
* ملحوظة : في هذه السنة، كباقي السنوات، حصلت إحدى بنات الشعب على المرتبة الأولى في امتحانات البكالوريا بمعدل 19.54 وهي علامة دالة على النبوغ و التميز و شاهدة على التفوق و على أن العلم ما زال يحميه أبناء الفقراء و على أن المدرسة العمومية لازالت فيها نقط ضوء ساطعة.. لكن التخوف المشروع هو أن تقبر التلميذة كما أقبر نوابغ من قبلها في أدنى مراتب الوظيفة العمومية ،و يظل المتحدثون باسم هذا الوطن و المحتلون للمناصب العليا فيه هم أولائك المتلعثمون بلغة عربية هجينة ينطقون جهلا و جهالة و يتحكمون في مصير البلاد و العباد في مغرب'' باك صاحبي'' و مغرب '' للي مو فالعرس ما يبات بلا عشا''