انتحرت مريم وتركت ورائها ألغاز تحتاج أن تفك شفراتها, وأسئلة لا بد من إيجاد إجابات لها, انتحرت ولم تترك سوى أسطر باحت إليها بويلاتها , ولم تترك سوى رسومات تشهد على معاناتها, انتحرت مريم وانتحرت الطفولة معها. لكن لماذا الانتحار؟ .
إن انتحار الطفلة مريم ليس الأول من نوعه, وأراه لن يكون الأخير مادام أن الظروف لا تتغير والحال يسير من سيء إلى أسوء, وفي كل يوم نكون قد سجلنا فقدان رجل أو امرأة من المستقبل, فماذا ضل من المستقبل ؟ لقد دق الكثيرون طبول خطر هذه المشكلة الاجتماعية قبل مريم , لكننا لم نكترث ولن نكترث , وبعد أيام معدودة سينسى الناس مريم وينسون قصتها , وسيتناسى كل منا دوره في إيجاد حل ينقذ هذه الفئة من غرق الانتحار.
كما هو معروف عند علماء النفس فإن الإنسان حتى يصل إلى مرحلة الاكتئاب الحاد والتي يتبعها الانتحار في الغالب, لابد أن يمر بمجموعة من المراحل كل منها تستغرق مدة زمنية معينة تطول أو تقصر باختلاف الحالة و أعراض معينة, إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه أمامنا أين كانت أسرة الطفلة عندما كانت هذه الزهرة تموت في صمت, تبكي في صمت, تتوجع بصمت, أين كانت المدرسة بكل من فيها أصدقاء وأساتذة وغيرهم عندما كانت الطفلة تصرخ بأعلى صوت لكن لا أحد سمع صراخها, ولا أحد منحها من وقته دقائق لفهم حالتها وما في صدرها من وجع , في كل يوم كانت تنتظر من يأخذ بيدها من ينقذها من فكرة الانتحار التي تراودها, فلا هي أم حاورتها فأقنعتها, ولا هو أستاذ أصدقها القول ففتحت قلبها له, ولا هو طبيب نفسي زارته فوصف دواء لها, لأنه في الأصل الفقر هو سبب اكتئابها فكيف تطرق باب عيادته وليس معها جزء من مستحقات خدمته.
إن "مريم " لم تنتحر بل قتلت , نعم قتلت وقاتلها كان مجتمع جاهل , فالسخرية والتي كانت السبب الرئيسي في انتحار الطفلة مريم , يقول علماء الاجتماع بأن خضوع الناس لها يتوقف على انفتاح مجتمعهم , ومستوى ثقافتهم وفكرهم , فكلما كان مجتمعهم منفتحا ومستوى وثقافة أفراده عالية, فإن آلية السخرية تكون ضعيفة والعكس صحيح, وهذا الصحيح هو ما ينطبق على مجتمعنا , لم تكن مريم لتنتحر لو أن نظرة مجتمعنا للفقر لم تكن نظرة تحقير وإذلال ,مجتمع لا يدرك أن الفقر لم يكن يوما عيبا, فالفقر خلق المعجزات ومن داخل أحزمة الفقر تلك خرج أبطال كبار, والقاتل لا بد له من محاكمة .
أعود الان إلى الطفلة مريم, كما يقول أهلها انتحرت لأنها تعاني من سخرية أقرانها منها لأنها فقيرة, لكن ماذا عنكم , ماذا قدمتم لها , بماذا حصنتم فلذة كبدكم من هذه السخرية, هل وفرتم لها عائلة مترابطة وملتحمة لا يطرق الاكتئاب بابها لأن كل فرد فيها يضم الأخر ولا يسمح للغريب بزعزعة استقراره, أنا متأكدة بأن أول مشكل عانت منه هو انعدام الحوار البناء والهادف بينها وبين أهلها, فلو أنشئوها على فكرة الفقر ليس عيب وأن العيب في العقول لا في الجيوب ما كانت لتتأثر بسخرية زملائها وكانت لتبرهن لهم عن ذلك بتفوقها في دراستها, لكن أين هو هذا الحوار و بماذا يحاورونها وهم أيضا في صميم عقولهم يؤمنون بأن الفقر عيب.
أجل لن تستطيع أن تغير فكرة الأخر الخاطئة حتى تؤمن أنت في داخلك بأنها خاطئة وهذا ما ليس موجودا في عائلة مريم وليس موجود في مجتمعنا بأكمله, فعندما تمرض مريم أو أحد إخوتها لن يجد الأب تطبيبا مجانيا جيدا و لن يفتح له أي طبيب باب عيادته ما لم يكن في جيبه مئات الدراهم , وعند الدخول المدرسي لن يجد تعليما مجانيا يوفر له كتب أبنائه المدرسية , ولا كسوة لكل واحد منهم ليكونوا مثل أقرانهم, عندما يصل موعد الأعياد لن يجد هذا الاب أضحية مجانية أمام باب مسكنه, وعند ما ستحتاج هذه الفتاة لبضع ساعات إضافية في مادة الرياضيات أو الفرنسية فبالتأكيد لن تجد أستاذ يقدم لها هذه الخدمة بمجانية, فكيف نريد منهم أن يفهموا فكرة الفقر ليس عيبا, وهم يعيشون هذا العيب في كل دقيقة من حياتهم وهم يعانون من لعنات هذا الفقر في الشارع في المدرسة في المستشفى في الإدارة بين الناس, لماذا نكذب عليهم بهذه الكلمات ونحن نعلم جيدا بأن مجتمعنا مجتمع لا يرحم وأن كل شيء فيه بثمن ولا وجود للمجانية وليس هناك معنى لتقبل الفقير, الفقير لا يستطيع أن يتزوج من يحب إلا إذا كانت أفقر منه, الفقير لا يستطيع أن يتعلم إلا إذا كان تعليم عمومي بسيط,الفقير لا يستطيع أن يدخل مستشفى إلا إذا كانت حملة للتلقيح.
قبل أن نقول لها الفقر ليس عيب لماذا انتحرت؟ فلنقل لأنفسنا لماذا لا نتحدث مع الفقير والغني بنفس الأسلوب؟, لماذا لا نتعامل مع الفقير والغني بنفس المعاملة ؟ لماذا لا تلد زوجة المستشار وزوجة الحمال في نفس المستشفى؟, لماذا لا يدخل ا بن الوزير وابن الكريان نفس المدرسة ويتخرجان من نفس الجامعة؟ لماذا لا يذهب ابن النائب البرلماني وابن البائع المتجول في نفس وسيلة المواصلة إلى الدرسة ؟ لماذا ولماذا ولماذا والجواب نعلمه جميعنا وهوأن في مجتمعنا الفقر عيب ,وهذا العيب نحن من جعله عيب من أكبر مسؤول عندنا إلا أبسط حارس عمارة في حينا.
لا يمكن أن نصلح هذه الوضعية ما لم نصلح منظومتنا الاقتصادية المكرسة للطبقية, ما لم نصلح منظومتنا التعليمية كي بصبح نفس نوع التعليم يقدم في المدارس العمومية كما الخصوصية, ما لم نصلح منظومتنا الصحية فيصبح متاح أمام جميع شرائح المجتمع.دون أن ننسى تغير نوع التربية التي نقدمها لأجيالنا الصاعدة . إنها وضعية اجتماعية تنبئ بخطر كبير يهدد مجتمعنا لا ينبغي أن نستخف بهذا الوضع لا بد أن نضع وضعية الطفولة صوب أعيننا إذا أردنا مستقبلا زاهرا لهذه الأمة.