لحسن بوتسكاوين / جديد أنفو
إن علاقة الطفل بالمال لا تعدو في بادئ الأمر أن تكون علاقة تسلية و لهو و لعب، فهي علاقة قد تبدو بسيطة إلا أنها علاقة و جدانية عميقة تؤثر في كثير من سمات شخصيته. فالمال لدى الطفل، بمفهومه الضيق (النقود المعدنية و الأوراق المالية)، يمثل عددا من الدلالات الاجتماعية و الوجدانية و التربوية، هذه الدلالات من شأنها أن تعمل على تمرين الطفل و تطبيعه اقتصاديا و تهيئته لكثير من الأنشطة و السلوك،. فقد أثبتت الدراسات التي أجريت في هذا المجال أن معالم علاقة الانسان بالمال تتحدد معالمها الأساسية في مرحلة الطفولة، فإذا كانت هذه العلاقة سوية فإن ذلك يساعد على تنمية الذات و الشخصية و الاستقلالية و الاعتماد على النفس و الاحساس بالأمن .. أما إذا اضطربت هذه العلاقة و لم تكن سوية تكون لها نتائج سلبية وخيمة فيما بعد الطفولة، فتظهر فيما يسمى بفوبيا المال والذي يتمثل في الخوف المبالغ فيه في التعامل مع المال، أو في ما يطلق عليه أمراض المال كالبخل و الاسراف و الأنانية و حب التملك و الرشوة و الاحتيال و النصب و الغش و المقامرة..
فإدراك الطفل للمال يتطور شيئا فشيئا، فيعطيه تمثلات و معاني و رموز، وقد يحدث أن يضفي عليه تمثلات خاطئة ومعاني ليست فيه، و ذلك نتيجة لخيالاته الخصبة، في الوقت نفسه تزود النقود الطفل بالعديد من المعاني عن العالم الخارجي.
و يعتبر Strauss.A من أوائل الذين حاولوا دراسة نمو و تطور المفاهيم المرتبطة بالمال لدى الأطفال، في دراسة تحت عنوان "تطور معنى المال لدى الطفل" و ذلك سنة 1952، و خلصت هذه الدراسة أن مفهوم المال عند الطفل يبدأ بالاعتقاد بأن المال بإمكانه أن يشتري كل شيء في الوجود، و أن هذا الاعتقاد الخاطئ قد يستمر إلى ما بعد العاشرة من عمره .
و بعد ست سنوات من دراسة Strauss جاءت دراسة أخرى لـ Danziger سنة 1958 تحت عنوان "مفاهيم الطفل الأولى عن العلاقات الإقتصادية" ،حاول من خلالها أن يثبت أن نمو مفاهيم الطفل الاقتصادية يسير و فق نظرية بياجي للنمو المعرفي، و فعلا جاءت نتائج دراسته لتؤكد له فرضيته من أن نمو المفاهيم الاقتصادية يسير وفق نظرية بياجيه في النمو المعرفي لدى الطفل، و أن الأطفال ما بين الخامسة و الثامنة تكون لديهم درجة معقولة من إدراك المال من حيث الشراء و الاستهلاك و تبادل النقود.
و تبقى دراسة الباحثتان Berti و Bombi سنة 1979، و التي جاءت تحت عنوان "نمو مفهوم المال و قيمته"، أكثر دقة من الدراستين السالفتين، حيث توصلت، هذه الدراسة، إلى أن نمو إدراك و فهم المال عند الطفل يمر عبر ست مراحل أساسية، و هي كالتالي:
المرحلة الأولى:فيها لا يستطيع الطفل ادراك معنى الدفع
المرحلة الثانية: فيها لا يميز الطفل بين الأنواع المختلفة للنقود و يعتقد أن المال بإمكانه شراء كل شيء.
المرحلة الثالثة: فيها يدرك اختلاف النقود و كونها غير متساوية القيمة.
المرحلة الرابعة: يدرك فيها الطفل أن المال ضروري و لكنه غير كاف.
المرحلة الخامسة: فيها يدرك الطفل العلاقة بين كمية المال وما يريد شراءه.
المرحلة السادسة: فيها يدرك الطفل معنى تبديل النقود و تغييرها و الفكة و قيمة الباقي أثناء الشراء.
وغالبا ما تظهر المراحل الأربعة الأولى قبل أن يستطيع الطفل استخدام العمليات العقلية المنطقية، أما المرحلتان الخامسة و السادسة فتظهران بوضوح عندما تنمو قدرات الطفل العقلية المنطقية، خاصة القدرة الحسابية.
إن الصور الذهنية و الفكرية و النفسية التي يكونها للطفل تجاه المال تتأثر بالعوامل الثقافية و الاجتماعية و البيئية للمحيط الذي يعيش فيه، و هو ما يفسر الفروق الفردية من طفل إلى آخر في فهم بعض الجوانب المرتبطة بالمال كالبيع و الشراء و الربح و الادخار.. و هذه الصور، ايجابية كانت أو سلبية، من شأنها أن تعمل عملها المباشر في تكوين الاتجاهات النفسية نحو التعامل مع المال في مرحلة الرشد أو ما بعد الطفولة و تؤثر في سلوكياته و معتقداته و أفكاره، و هنا تتجلى خطورتها و أهميتها في نفس الوقت .
و من هذا المنطلق يجب، على الأباء خاصة، الانتباه إلى علاقة الطفل بالمال و إيلائها ما تستحق، و يحاولوا توجيهها بطريقة عقلانية و علمية و تربوية لما لها من فوائد في تكوين شخصيته وتحسين هذه العلاقة. وهذا ممكن من خلال ما نسميه بمصروف الجيب للطفل أوPoket money كما يسميه الانجليز لكونه من الأساليب الجيدة التي يمكن للوالدين استخدامها في تعليم الطفل و بناء علاقته مع المال بشكل سويّ، لما لها من أهمية في تنمية الذات و الشخصية و الاستقلالية و تحمل المسؤولية فضلا عن الشعور بالخصوصية التي يشعر بها الكبار.و يجنبه التعامل مع المال منذ الطفولة السقوط في البخل أو الاسراف و سلوك الرشوة و السرقة ...و غير ذلك من أمراض المال فيما بعد الطفولة.
فمصروف الجيب هو مبلغ من المال، يعطى للطفل يوميا أو أسبوعيا أو شهريا، ليصرفه الطفل كيفما شاء دون أي رقابة من الأهل، و رغم أهميته البالغة فهو في نفس الوقت سلاح ذو حدين. لهذا يجب أن يخضع لضوابط دقيقة لتوجيهه للأستخدام الجيد، و ذلك من خلال تحديد مبلغه بناء على سن الطفل و حاجياته و ميزانية الأسرة، و تشجيع الطفل لانفاقه في أشياء مهمة و مفيدة مع ترك الاختيار له في ذلك. كما لا ينصح باستخدام مصروف الجيب كمكافأة للطفل، كلما طلب منه القيام بشيء واجب القيام به كالتمارين مثلا، مع الانتباه إلى أن منح مصروف جيب سمين للطفل قد ينشئ طفلا مدللا، و مصروف جيب زائد للمراهق قد يؤدي به إلى المغامرة في السلوك الانحرافي.
خلاصة القول فالمال أشبه ما يكون ببئر عميق و خطير، لا يمكن للمرء العيش في كرامة دون أن يرتوي من مائه، لكن عليه أن يحذر أشد الحذر من الوقوع في غياهبه.