بما أن القاعدة الكونية تقول بأن لكل شيء وجه مشرق منير ووجه مظلم مخيف,فإن هذه القاعدة تطبق أيضا على الثقافة الشعبية .
إن كل ثقافة مهما نظر إليها أصحابها نظرة الكمال والتمام ,لا يشوبها شيء ولا يعلو عليها عالي, إلا وتوجد لديها خلفية قاتمة,وبين أسطرها ما يحتاج التصحيح وإعادة النظر, وكذلك هي ثقافتنا المغربية الشعبية التي تتغذى عليها حياتنا اليومية ,فنحن شعب نقدس ما خلفه لنا الأجداد حتى الممات وإن فطنا بأن فيه ما يطلب التعديل والتغيير, فننظر إلى الأجداد كما لو أنهم دخلوا بيت الحكمة وأغلقوا الباب, فلا فطنة ولا حكمة بعدهم.
نحن لا ننكر أبدا بأن لنا ثقافة شعبية زاهرة ومليئة بالحكم والقيم والمبادئ الهادفة والرصينة,إلا أنه لا بد من مراعاة عجلة التغيير التي يواكبها مغربنا والعالم من حولنا ,فبعض الأمور كانت صالحة للظروف الزمانية والاجتماعية التي نسجها فيها المخيال الجمعي للمجتمع ,لم تعد كذلك اليوم وهي تتطلب التصحيح والمراجعة.
واليوم سنتحدث عن واحدة من تلك الخلفيات السلبية للثقافة الشعبية المغربية والتي مازالت حاضرة بقوة وتطبع حياة الأفراد في المجتمع المغربي ألا وهي" الصورة القاتمة للمرأة" .
ربما يكون الجنس اللطيف أكثر عضو في النسق الاجتماعي نالت منه الثقافة الشعبية المغربية ولا زالت ,بالرغم من السلوكيات والقيم التي دخلت علينا من الغرب بسبب العولمة إلا أن الثقافة الشعبية وما تحويه لا يزال يشكل مسلمات إيديولوجية لها تأثير نفسي بالغ في لاشعور الفرد حتى وأن وصف نفسه بالحداثي و ينتمي لعصر التطور والمعرفة ,فعندما تصل السهام إلى المرأة تنقلب الموازين.
تطبع الثقافة الشعبية حياة المرأة قبل ولادتها,فالأب والأم يترجيان الليال الطوال و يدعيان دعاء المتلهف العطشان ,"بأن يكون المولود ذكر ",لأنه في ثقافتنا الشعبية"البنت تاكل ماتشبع تخدم ما تنفع" أما المولود الذكر ففي ثقافتنا الشعبية يعز أمه وأباه منذ يوم ولادته "دلل ولدك يغنيك ودلل بنتك تخزيك". وما إن يجيء الخبر حتى ترى الأب إسود وجهه وكتم أنفاسه,وامتلئ قلبه بشيء من الغم لأنه خاب ما كان يرجوا.لا يقل لي أحد بأن التمييز بين الذكورة والأنوثة مضى وانقرض بل إنه لا زال حي يرزق ,يسكن أفكارنا بصورة ضمنية أو مباشرة.
بعد أن تقبل موضوع المولود الأنثى صار هم هذا الأب أن لا يشير إليه الناس بسبب تلك العاهة التي ابتلى بها ,ليكون شغله الشاغل هو إغلاق الأبواب عليها وإن فتحها فذلك يكون بمواعيد محددة ,ومراقبة دائمة,في انتظار زوج يريحه من خوف ركبه يوم ولادتها لأن "البنية فالدار بلية".
وأخيرا جاء الخبر السار وجائه الخاطب المنقذ من مثال"العاتق في الدار عار",لتنتقل تلك العروس إلى بيت الزوجية لتمر في ليلة زواجها بتجربة الفأر المنتظرة.إن المرأة في ثقافتنا الشعبية تخلق فيزرع معها "فوبيا البكارة" ,ليصير همها في ليلها ونهارها كيف تحافظ عليه لأنها حياتها وهي مسؤولة في جميع الاحوال عنها, حتى في الاغتصاب,إننا زرعنا فيها الخوف والذعر والحيطة من شبح البكارة.إن هذه الثقافة الشعبية التي تجعل من العروس فأر تجارب ينتظر القريب والبعيد نتائج تجربته,قد ساوت في حساباتها الجاهلية بين البكارة الرهيفة أو من ولدن بدونها وبين الرذيلة والبغاء ,بين المقدس والمدنس ,بين الشريفة والباغية,لأنها لا تعترف بالعلم ولا تفهم إلا بالدم.وكم من فتاة بريئة وضع الحد لحياتها بفعل هذه الأسطورة الخالدة.
تنتقل بعد هذه التجربة المظلمة المرأة إلى بيت الزوجية,حيث تصبح المقارنة القائمة بينها وبين البهائم يومية,كيف لا وزوجها يقول "مر اتي حاشاك " أو ان يقول له أحد أصدقائه "المرأة كتربط من لسانها والبهيمة من لجامها",أو "مولاة الدار عمارة ولو كانت حمارة", إن مثل هذه الأمثلة لهي طامة كبرى ومصيبة ليس بعدها مصيبة,المرأة التي هي نصف المجتمع وبها يصلح النصف الأخر يتم وضعها في كفة الميزان مع البهائم,فكيف ننتظر أن يعامل هذا الزوج زوجته ؟؟
تبدأ المرأة في رحلة أخرى من الترقب والانتظار والخوف ,سببها إنجاب الإطفال,فالمجتمع ينظر إليها ككيان ناقص لا يكتمل إلا بوجود الأولاد من حولها ,كما لو أن الدور الوحيد للمرأة في هذا المجتمع هو ذلك"الدور البيولوجي " ,نحن هنا لا نقلل من قيمة هذا الدور الغاية في الأهمية ,إلا أن الله عندما خلق النساء لم يخلقهن لهذا الدور البيولوجي فقط ,فقد أعزهن بالعقل مثلهن في ذلك مثل الرجال.كما أن حكمة الله تقضي بأن يخلق بعض النساء عاقرات كما هو الشأن عند بعض الرجال ,لكن هذا لا يلغي وجودهن ولا يشيئهن فيضرب بهن مثل "المرأة بلا ولاد بحال الخيمة بلا وتاد".
وإن فلحت في الإنجاب فإنها في داخلها لا زالت تعيش الخوف والقلق الدائم من انهيار الزواج وما يسلط عليها من لوم إن وقع هذا ,فتضطر إلى الصبر عن إهانة الزوج و عائلته,وإلى تناسي جراح العنف الملموس والمحسوس,من أجل ألا تسمع كلمة "الطلاق",لأنها تعرف جيدا كيف هي نظرة المجتمع إلى المطلقة ,إذ ينهون حياتها ووجودها بانتهاء زواجها ,ويجعلونها على الهامش كما لو أنها قطعة أثاث قد كسرت ولم تعد هناك إمكانية لإصلاحها.وحتى أقرب الأقربين إليها وأهلها لن يرحموها لأن في ثقافتنا الشعبية أب المطلقة يضرب به مثل"جوجت بنتي باش روح من همها رجعاتلي وربعا مورها".
المرأة المطلقة في المجتمع المغربي هي أكثر النساء معاناة من التهميش والتعنيف والنظرة الاحتقارية دون أن ننسى لسعات ألسنة الناس السامة,بالإضافة إلى تراجع حظوظ إيجادها لزوج يتقبل وضعيتها,ففي ثقافتنا الشعبية "لحم الهجالة مسوس وخادير لو الملحة قلبي عافو".وبالتالي الحكم عليها بالمأبد في سجن الوحدة .وهي مطاردة بالفشل في جميع أعماها حتى في تربيتها لأطفالها :"الهجالة ربات اعجل ما فلح ربات كلب ما نبح".إذا فكرامة المرأة تتحدد بوجود زوجها وبدونها لا معنى لها ,وسيضعها الناس بين الأقدام .
أعود وأنبه إلى أنه بالرغم من جميع الخطوات التي خطاها المغرب في مجال حقوق المرأة ,وبالرغم من ما عرفه المجتمع من حداثة وتحديث و تطوير ,إلا أن ثقافتنا الشعبية بإيجابياتها وسلبياتها لازالت تعيش معنا وبيننا ,ولا زالت تحكم الكثير من أنماط سلوكنا وطرق تفكيرنا ,فتأثيرها علينا موجود داخل كينونتنا وإن تسترنا على ذلك بغطاء الرقي والمعرفة ونعتها بالخرافات المنتهية أجالها ,ففي مجتمعنا المغربي لا زالت الثقافة العامية تطغى على الثقافة العلمية .