تناسلت بشكل سريع أخبار عن فوز شباب وشابات الوطن العربي بمسابقات عدة للأغاني في الشرق كما في الغرب، وكأننا في هذا الوطن المترامي لسنا في حاجة سوى للطرب والغناء وما جاورهما وسار على دربهما، بعدما قضت دولنا على عديد مشاكلها المزمنة التي تنخر مجتمعاتها وتعقد أوضاع مواطنيها ولاجئيها على حد سواء، بل وكأننا نعيش في أمن وأمان من التقتيل والجوع والتشرد وسوء الأحوال في كل الأقطار وعلى طول الأوطان.

حتى لو افترضنا جدلا أن أمور بلداننا وأحوال مواطنينا في أحسن الأحوال، فإن ذلك يحتم علينا تشجيع أجيالنا الملتحقة بركب الكبار والتي من المفروض أن تحمل مشعل المحافظة على هذا الوطن وتسعى إلى رقيه وإسعاد أهله، ليس فقط بالغناء، إن كان فيه ما يسعد على وجه الحقيقة لا على قفا الخيال، بل بتشجيعها على العطاء في كل المجالات، وخاصة في ميادين التعليم المختلفة التي بها تتقدم الأمم، اعتبارا لما للتعليم من دور محوري في صقل الكفاءات وتنوير العقول والدروب للوصول إلى المستوى الذي تصبح فيه كل المهن والحرف قائمة على العلم قبل القول فيها أو الفعل.

إن ما يُؤسف له اليوم أننا أوصدنا أبواب التألق أمام شبابنا، وفتحنا لهم شبابيك تبيع لهم وهْمَ الشهرة والغنى السريع بأقل المجهودات والأثمان، حيث تتنافس العديد من القنوات الفضائية (الموجهة طبعا للبشر على وجه الأرض وليس للمخلوقات الفضائية) على جلب عقول وقلوب الشباب نحو شهرة سريعة، قد تبدوا للوهلة الأولى وكأن أهدافها اكتشاف المواهب في الغناء - والغناء فقط - لكنها تهدف في الواقع إلى جلب أموال الإشهار والتسويق لشركات بعينها وجذب أكبر عدد ممكن من العيون والقلوب نحوها، وتمرير ما تريد لتلك الجيوش من عقول الرؤوس المتسمرة أمام شاشاتها والمتتبعة لكل صغيرة أو تفصيلات مما تجود به عليها.

هذه الفقاعات الإعلامية تتحول إلى ظواهر اجتماعية تُكسبها أحاديث الناس في منتدياتهم الخاصة والعامة شهرة ومكانة رمزية تُحولها إلى أُنموذج مجتمعي يُغري بالتطلع إلى الوصول إليه من طرف الشباب على وجه الخصوص، فيصبح أسمى أمانيهم في هذه الحياة أن يصيروا مثل ذلك المغني أو تلك المطربة، ليعيشوا شهرة ما كانوا ليصلوها أو يحلموا بها إن هم برعوا في مجالات أخرى، حتى ولو كانت أنفع للمجتمع من الغناء والطرب، بل وحتى لو صُنفوا في خانة علماء الإنسانية الكبار واعترفت بهم كبريات مراكز الأبحاث الغربية، فإن مجتمعاتنا لن تعيرهم أدنى اهتمام وسيبقون في خانة النسيان.

إذا كان هذا النموذج هو ما نرتضيه لشبابنا وشاباتنا، فمالنا نتباكى على دراستهم وتفوقهم، في مناسبات محددة بعينها، غالبا ما تكون في الأمتار الأخيرة للوصول إلى خط نهاية السنة الدراسية عموما، والمراحل الإشهادية على وجه الخصوص، حيث تكثر "الإجراءات" وتتوالى التعليقات والتخمينات، ويعكف العديد من هؤلاء الشباب على الحفظ ومراجعة الدروس، حتى أن بعضهم يُصاب بالإرهاق النفسي والبدني المفضي إلى أمراض نفسية وجسمية قد تكون أكثر تعقيدا مما تبدوا عليه...، ورغم ذلك فالمجتمع لا يشجع هذه الكفاءات على تحمل مشَاق مسيرتهم العلمية، إلا ما نذر، وحتى إن فعلنا ذلك فلا يكون سوى بهرجة إعلامية غير مستمرة لا في الزمان ولا في المكان.

أعتقد بصيغة الجزم أن إعادة الاعتبار للعلم وأهله داخل مجتمعاتنا، هو الكفيل بتشجيع أبنائنا وبناتنا على نهج كل السبل الموصلة إلى تحقيق أهدافهم في هذه الحياة وفق منطق "من جد وجد"، كما أننا سنحصر بذلك مجالات الرقي المجتمعي أمامهم في سلوك سبيل العلم في مختلف التخصصات والميادين، وتبقى الاستثناءات مؤكدة للقاعدة الأولى ولا تصير الأصل وتحيل القاعدة استثناء (كما هو حاصل اليوم). كما أننا سنسمح للكفاءات العلمية بالتحول إلى نماذج تُقتدى في العلم والعمل من الجيل الصاعد الذي تاه بين نماذج صُنِعت على مقاسات بعينها لخدمة أهداف محددة، أكيدٌ أنها تشتت أذهان شبابنا وتنزاح بهم عن طريق الرقي الحقيقي للذات والمجتمعات التي ينتمون إليها على حد سواء.