محمد حمداني / جديد انفو
أن تقوم صباحا وتخرج من فضائك الخاص في اتجاه الفضاء العام بمختلف مكوناته، وتتنقل بشكل سلس بين الفضاءين معا جيئة وذهابا، لم يكن ليثير التساؤل، بلْه أن يصبح مثار نقاش لدى القاصي والداني. وهو أمر يمكن إسقاطه على عديد المسلمات التي كانت، وإلى زمن ما قُبَيْل الكورونا، تدخل في باب المعيش اليومي الذي لا يَجْمُل بالفرد مناقشته إلا أن يكون من ذوي الشغف العلمي التخصصي الدقيق في ذات المجال، أو من الذين فقدوا اتزانهم العقلي والنفسي وأضحى كل شيء لديهم مثارا للتساؤل والشك.
لقد أسهم الوضع الوبائي لفيروس "كورونا المستجد" وما رافقه من حجر صحي لأغلب فئات المجتمع، الذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها أسارى بين جدران منازلهم غير قادرين على مبارحتها خوفا من العدوى أو من أن تطالهم عصا السلطة، أسهم في بروز عديد المسلمات التي انتقلت من دائرة الظل والتعود لتسلط عليها أضواء التشريح والمساءلة من زوايا نظر متعددة وفي مستويات مختلفة.
فالكلُّ أضحى يتوسل في تفسير وفهم هذا التحول الفجائي ببضاعته وقناعاته وتجاربه الحياتية وموقعه الاجتماعي والفكري؛ وهكذا انبرى العديد من الناس إلى الاتجاه نحو المنحى الأسهل في التفسير بالركون إلى قاعدة المؤامرة الخارجية - والتي لا يمكن استبعادها على كل حال -، وذلك بالتشديد على أن ما نعيشه لا يعدو أن يكون إلا حربا بيولوجية بين القوى العظمى خرجت عن السيطرة لتشمل شظاياها مختلف أنحاء العالم. فيما اتجه البعض الآخر اتجاها تقنيا بالتركيز على تتبع تطور أعداد الإصابات وطرق العدوى ووسائل الوقاية وآليات محاصرة هذا الوباء ومنحنيات نسب الإماتة والتعافي دون الخوض في الأسباب البعيدة والقريبة. فيما اتجه فريق ثالث إلى العيش بين المعطيين معا.
وإذا كنا غير قادرين على الحسم في مصدر وعوامل انتشار هذا الفيروس - لحد كتابة هذه الأسطر - وما نتج عنه من وضع وبائي شمل مختلف بلدان العالم، وإن بوثائر متباينة، إلا أننا قادرون على رصد مجموعة من المتغيرات الاجتماعية والعلائقية والنفسية التي أضحت ماثلة للعيان، سواء على مستوى العلاقات "البيفردية" أو بين الإنسان وذاته؛ حيث ساهم انتشار الوباء وشظاياه الاقتصادية والاجتماعية في تزايد الضغط الاقتصادي والنفسي على العديد من أفراد المجتمع غير المحظوظ الذي توسعت قاعدته بفعل تعطل الآلة الإنتاجية وتوقف العديد من الأنشطة الاقتصادية، وخاصة أن العديد من الأجيال لم تعش على وقع مثل حالات الاستثناء هذه، وما خبرت قبلُ أزماتٍ من هذا القبيل.
كما أن الوباء "الكوروني" أظهر حقيقة الانقسام الصارخ والهوة السحيقة بين عالمين؛ أحدهما يخطط ويفكر وينتج ويبادر إلى البحث عن الحلول للخروج من الأزمة، والثاني يتابع ويترقب ما يصدر عن العالم الأول، دون أن يكلف نفسه حتى بالتفكير في ما ينقذ به نفسه إن أوْصَد العالم الأول أبوابه أمامه، وخاصة أن الجائحة أظهرت لمتصدري القرار في هذه البلدان أنهم لم يوفروا لأنفسهم ما يغنيهم عن طرق أبواب الغرب والشرق ليُداوو أنفسهم من علل الأبدان
وأسقام مدلهمات الزمان، بلْهَ أن يوفروا لمواطنيهم هذه "الرفاهية" التي تدخل في حكم أدنى حقوق المواطنة في باقي البلدان.
إن "الزمن الكوروني" هذا وهو يسائل مسلماتنا ويمحص سلوكاتنا تجاه الذات والغير، يُنبئنا بهشاشة بُنانا النفسية والاجتماعية قبل بُنانا الاقتصادية، ويضع الإنسانية جمعاء أمام حقيقة اشتراكها في وحدة المركب الذي إن مال بعضه غرق كله، فأنَّى لبعضهم أن يدعي قدرته على الإبحار لوحده في ذات المركب، أو أن يُسَلّم بصواب مقولة "أنا ومن بعدي الطوفان" التي باتت عاجزة على الصمود أمام سطوع حقيقة وحدة المصير والمسار. ومن ثم يبقى السؤال الذي يطرح ذاته في هذا الشأن بحدة: هل ستشكل نهاية هذه الأزمة بداية جديدة لمساءلة مسلمات عالمنا الحالي بما يعزز تضامن أفراده ودوله وتعاضدهم، أم أننا نتجه عكس ذلك تماما بتجسيد قول ابن حمام الأزدي:
كالثوب إن أنهج فيه البلى أعياعلى ذي الحيلة الصانع
كنا نداريها وقد مزقت واتسع الخرق على الراقع؟