في عدد الخميس 20 مارس من جريدة المساء ورد ملف خاص عنونه صاحبه ب "الوجه الآخر للأمير عبد الكريم الخطابي " ... أيام مرت وأنا أعيد قراءته علني أستوعب منطقا وتسلسلا بين الأحداث التي سردها صاحب الملف لكن لا جدوى ، حاولت أن ألتمس لصاحبه قصدا آخر غير تشويه صورة الأمير الخطابي والتلاعب بالحقائق التاريخية فلم أتمكن، التناقضات التي وقع فيها الصحافي وتضارب الأحداث فيما بينها وكذلك مؤرخ البلاط الذين استند إليه كلها معطيات لا تدع لنا مجالا للشك في المقصود من كل هذه العناوين التي أدرجها : "عندما أحرق الريفيون منزل الخطابي ثلاث مرات لتعاونه مع الاستعمار" ، "الأمير يستعمل الأسلحة الكيماوية في حربه مع الإسبان " ، "الخطابي صحفي يردد العام زين" ...وعناوين أخرى تصب في نفس الهدف.
حاول مُعِد الملف أن "يعري الوجه الخبيث" للخطابي ، نبش في كتب التاريخ ليبرهن أن الرجل كان عميلا ومرتزقا للإسبان والفرنسيين والألمان أيضا قبل أن ينقلب ضدهم ويحاول استرداد صورته بين أهله _الذين كشفوا نواياه_ بإعلان الثورة والحرب ضد الاستعمار، ثورة استعمل فيها أحدث الأسلحة ومعدات اتصال متطورة مده بها الألمان في سياق بحثهم عن موطئ قدم على أرض المغرب، استعمل الخطابي الغازات السامة أيضا لتسميم منابع الماء والحقول التي يتزود منها الجيش الإسباني ...هذا يعني فيما يعنيه أن الأمير مولاي محند _عن غير قصد طبعا_هو السبب في ارتفاع نسبة إصابة أهل الريف بكل أنواع السرطانات وليس الجيش الإسباني ..فليطمئن قلب الإسبان والقصر والألمان وليهنأ ضميرهم إذن ، الخطابي هو السبب في الفتك بأبناء الشمال...أيها الناس ، ظهر الحق وزهق الباطل أخيرا ...
الفريق المُنجِز للملف أسهب في سرد ما أسماه حقائق تاريخية خفية في الوقت الذي أغفل أو تغافل _لا فرق ، فالنتيجة واحدة_ أن يربط بين المعطيات التي جمعها لتكون النتيجة مقنعة وفي مستوى ذكاء القارئ ، فإن كان الخطابي قد استعمل أسلحة حديثة ومعدات متطورة لم تكن في حوزة المستعمر نفسه فلماذا انهزم في هذه الحرب ؟؟ وإن كان فعلا قد قاد ثورته تحت إمرة ألمانيا فلماذا عمدت هذه الأخيرة وفي نفس الوقت إلى تزويد الإسبان بالأسلحة الكيماوية لينفذوا ضربتهم القاضية على المقاومة الريفية ؟؟...أعتقد أن هذا المعطى الأخير ليس بالخفي ولا هو محل خلاف ، كل المصادر تؤكد أن مخازن ألمانيا من الأسلحة الكيماوية كانت هي المزود الوحيد للإسبان في حربهم على الريف ...قليلا من المنطق واحترموا ذكائنا...لا تستبلدونا رجاء .
حسب الملف دائما نكون أمام تعادل بين القصر والمستعمر والأمير ، فإن كان السلطان العلوي قد سلم البلاد للأجنبي فقد فعل الخطابي نفس الشيء ، إن كان المستعمر قد ضرب المنطقة بالغازات السامة فالخطابي فعل أيضا ، وإن كان مولاي يوسف قد احتفل سنة 1927 بانتصار المستعمر على المقاومة الريفية فإن مولاي موحند قد نوه بقضاء الإسبان على الشريف محمد أمزيان وأرسل لهم رسالة تهنئة...هذه هي الإشارة القوية التي سيلتقطها القارئ العادي ليعيد التفكير مجددا في الصورة النمطية التي تكونت لديه حول الخطابي ..
حري بي ولتتضح النوايا أكثر ، أن أشير إلى أن المؤرخ عبد الكريم الفيلالي كان هو المصدر الأساسي الذي اعتمده الفريق المُعِد للملف مع تطعيمه من حين إلى آخر بمصادر أخرى ...وحين نعرف بأن الفيلالي هو الابن البار للقصر فإنه وبقليل من النباهة يمكننا أن نفهم أن مؤرخا تربى في كنف القصر الملكي لا يمكنه إلا أن يجعل من سكان هذا القصر أبطالا ومن الثوار شياطينا، هذا بالإضافة للباحث البريطاني "بروس مادي" الذي أنجز بحثا حول ولاء الخطابي الذي تكفل مركز "تل أبيب" بنشره ، أعتقد أن شرح الغرض من نشر مركز كهذا لهذه الدراسة سيكون من المُفضحات ...لا داعي لذلك إذن.
أول سؤال تبادر إلى ذهني وبإلحاح شديد بعد أن فرغت من قراءة الملف هو : من له مصلحة في تلويث سمعة الرجل وشيطنته هو وعائلته ؟؟ ..وما الغرض من ضرب مصداقيته أمام شعوب العالم التي استنارت ولا تزال بفكره ونهجه في الثورة ضد الظلم والاستعباد ؟؟ .
من المعروف أن الأنظمة الديكتاتورية عبر العالم وكذلك الدول الاستعمارية لها باع طويل في هذا المجال، سبق وأن شوهت صورة عمر المختار وشي جيفارا ، نيلسون منديلا ، مالكوم إكس ومارتن لوثر كينغ والآن محمد ابن عبد الكريم الخطابي ، لهذا الغرض تُسخر أخطر الأسلحة وأنجعها : الأقلام المأجورة الباحثة عن الشهرة والذمم المعروضة للبيع ومؤرخي القصور والأنظمة الأبدية ، تحت ما تُسميه البحث عن الحقيقة التاريخية ، ليس الغرض هو تلميع صورتهم ونفي التهم التي تلاحقهم وتنقية ثوبهم من الدم عن طريق الانتقام من هذه الرموز التي أذلتهم وكسرت شوكتهم فقط ، هناك هدف أخطر وأبعد بنظري وهو تشويش وتهويد صورة متزعمي الثورات عبر العالم أمام الشعوب التي تقتدي بهم وتستنير بتاريخهم لمواصلة النضال ضد الظلم والاستبداد وبالتالي تفقد هذه الشعوب ثقتها في هذه الرموز التاريخية...
هم يدركون تماما بأن الشعوب المقهورة تحتاج دائما إلى ملهم/قائد/زعيم غير عادي يقود انتفاضتها في وجه مغتصبها ، هؤلاء هم بمثابة بوصلة أو منارة تستدل بها للردة على الظلم ولاسترداد حريتها وحقوقها المسلوبة ، فإن هي فقدت ثقتها في هذه الرموز ستصبح شعوبا تائهة وحائرة وستجنح إلى الخنوع والهوان والقبول بشروط الاستعباد ، بمعنى آخر :"المشي مع الحيط" بدل الثورة حفاظا على الرقاب وحقنا للدماء ، في نفس الوقت ، لن يجرؤ أي زعيم/قائد ثورة على الظهور مجددا وسط شعب يقهره الاستبداد...سيتقوقع الجميع وينكمش في بوتقة الظلم وقد يهتفون بتأبيده... لم لا ، مادامت النتيجة محسومة سلفا لصالح الديكتاتوريات الأبدية والأنظمة الاستعمارية ...باختصار شديد : يتم ضرب عصفورين بحجر واحد....
أود الإشارة هنا إلى أني لم أنصب نفسي مدافعة عن الأمير ضد ما يحاك ضده في الخفاء والعلن ، الرجل أكبر من الزج به في هذا القيل والقال ، سيرته ومساره تنطق وتدافع عنه دون حاجة لي أنا أو إلى غيري ، كما أني لا أسعى إلى إضفاء صفة القدسية ولا إلى تأليه المجاهد لأن الرجل إنسان يخطئ ويصيب لكنه ليس شيطانا ولا خائنا ، ما أردت أن أوصله إلى القارئ هو الإشارة بأصبع الاتهام ودون مراوغة لمن يقود هكذا حملات خسيسة وتبيان وجهة نظري وقرائتي للأهداف الخفية/البعيدة المدى المرجوة منها. تجاهله في الإعلام والتاريخ الرسميين وفي المناهج التعليمية للدولة تارة وسلسلة الحملات الخفية والعلنية التي يشنها عليه المغرب الرسمي تارة أخرى ما هو إلا دليل على أنه قاد ثورته مستقلا لا تابعا...قادها وهو يحمل بندقية وفكرا ومشروعا مجتمعيا لا عَلَما ونشيدا أو شعارات جوفاء تمجد الذات والسلالة العريقة وتدعوا بالسؤدد وبالنصر والتمكين....حسبه فكره النير وأخلاقه الرفيعة وشجاعته وبلاءه الحسن في الميدان ليكون شخصية استثنائية لا تتكرر إلا نادرا .
أمير الريف هو المشعل الذي يهتدي به المظلومون والمقهورون وملهم الشعوب والثوار عبر العالم ، لن تدنس صورته كل أكاذيبكم وطلاسيمكم التي تسمونها تاريخا ... تاريخه المشرق والمشرف محفور في ذاكرة كل شرفاء الوطن والعالم ، يجدر بنا أن نناديه "عالي الهمة" والشأن عن استحقاق لا تقربا ولا تملقا ... لن نحتاج إلى ريشة وأصباغ تجمله أو تلمعه وتسوقه بصورة غير صورته الحقيقية... استأجروا الأقلام والمؤرخين كما يحلوا لكم ، تاريخ الرجل واضح أمامنا ولن نُضطر لتهريبه على ظهر حصان إلى القمر ليصدق الرعاع أنه بطل تحرير.. قاد ثورة لرفع يد المستعبد عن الشعب لا ليمجده السدنة ولا ليحصد الألقاب.