زايد جرو - تنغير / جديد أنفو
مدينة تنغير أو الإقليم عموما من المناطق الأكثر تصديرا لليد العاملة بالخارج منذ السبعينيات ،العمال حاولوا تجاوز اليأس وشح الأمطار في بلدتهم بحثا عن بديل، ولو في الاغتراب... عملوا بكد سواعدهم وبنوا أعشاشهم هناك ...لكن الزمان لا يبقى على حال حيث تطورت أمور الهجرة وأصبحت معكوسة نحو الجنوب تحت ظل الأزمة التي طالت وما زالت مستمرة في السنوات الأخيرة ،أرقت العديد من حديثي العهد بالهجرة إلى العودة القهقرى نحو المنبع بعد أن بنوا أعشاشهم هناك فأرغمتهم الظروف القاسية لطي الجناح المكلوم والعودة نحو المجهول،البعض منهم رغب في الحفاظ على ماء الوجه والبقاء هناك منتظرا رحمة رب العالمين،..والبعض غيّر العمل وبحث عن فعل أي شيء لتستمر الحياة ...هي يد الزمان تطول وتقصر وتشح وتجود، وتبيع لهم العيش بالتقسيط.
ومن خلال مجالستي المستمرة لمهاجر شرعي أيام عديدة حين يعود للبلدة وبعد انشراح صدره لي ،وَد لو أحكي معه وسقاني في مآرب البيع كؤوس شاي دهاقا داكنة اللون هي بين الدفء والبرودة ،طل علينا صديق غير مخلص في الود متنكر للعشرة ذي أنف غليظ وقامة قصيرة "مدكوكة "من بائعي الحروف مثلي فعاد أدراجه وأجّل الزيارة حتى أطوي أوراقي وأخلو المكان تجنبا لأي تصوير محتمل أو إحراج غير مقصود وأنا عارف عالم بما نوى وينوي ورغبته أكيدة ملحة مثلي في اقتناء بعض عائدات العمال من المهجر حين يشح الزمان ،لكنني حلفت برب الراقصات إلى مِنَى(النوق والإبل ) ألا أغادر وسأعصر صبري وعضلات وجهي وأجفف نظارتي من الغبار الرقيق الصاعد من المبيعات ، ولن أصالح ولن أهاجر حتى أملأ مزودي بالخبر الذي يجب ،لمعرفة سر التحول من عشق الهجرة إلى جنون الخردة، فيها كل ما تتصوره وما لا تتصوره وما تشتهيه وما تنفر منه ( أحذية مستعملة بشتى الأنواع والقياسات ،ملابس صوفية شتوية وخريفية مستورة و ملابس صيفية مكشوفة تحتية وفوقية ...ملاعق فرشات أسنان لعب الأطفال أجهزة منزلية تباع على الله، دراجات أدوية وقارورات فارغة وأشياء أجهل استعمالها) المهم كل الأشياء موجودة ولا يبين منها أنه تم اختياره هذه السلع عن ذوق أو حس فني أو جمالي موجه ....
بعدما فرغ المكان سألت الحاج قائلا :"أسي الحاج وهاد النصارة مصاخيط " بلغة عامية ركيكة لأكسر لغتي في الفصل "فهُم لا يتصدقون على أخوالهم أو أبناء عمومتهم بهذه الأحذية والملابس فابتسم وضحك وقال هم يعرفون أنفسهم وما يجوز لهم والحمق كله هو أن يفكر الشخص في غيره فهم عقلاء ويتواصلون بالعقل لأن العاقل إذا خاطب العاقل حصل التفاهم وإن اختلفت درجة التعقل فيهما لأنهما من أصل واحد ،والعاقل إذا خاطب الأحمق لا يتواصلان لأنهما ضدان والضد يهرب من الضد ...فتمعنت في كلام الحاج الملقب ب بولحية لطولها وسوادها ،فقلت في نفسي الحكيم هو و كبد الصواب كلامه فاسترسل في القول : أنا من ضواحي تنغير وهاجرت البلدة بعقد عمل شرعي اشتريته ب (6) ملايين سنتيم، باع أبي رحمة الله عليه قطعا من الفدادين ورحلت ،وعوّضت له والحمد لله على كل شيء، حملت أبنائي معي إلى إسبانيا وقارعت الأتعاب والمحن والمشاكل مع أهل بيتي وأبنائي الذين تعثروا في دراستهم الابتدائية وبعدها الإعدادية وبعد مدة ضاعت اسبانيا ولم يبق فيها شيء، وعدت بأبنائي ليجدوا مشكلا آخر في المدرسة والتعليم ،بعنا أثاثنا هناك وأنا شجاع لأنني لم أقدر على تحمل الأزمة لأنها أذلتنا، وعدت لكن العديد من أصدقائي مازالوا رابضين هناك ومشاكلهم عويصة جدا ،عدت وما زلت الآن أتنقل وأنقل هذه الخرداوات التي تتهافتون عليها ،بل أجد الناس مصطفين بباب البيت وأنا متعب من السفر يطلبون فتح المتاع على بكرة الصباح، قلت وأين تجدها سي الحاج فرد أتنقل عند أصدقائي الذين يشترون ويهيئون السلعة ،يجمعونها هناك من النصارى أو من النفايات أو من أشخاص يبيعون متاعهم أو من بعض الشركات التي تتخلص من الأشياء القديمة ...فالمصادر متنوعة لكن ثمنها أرخص وحين ينادوني هاتفيا بأن السلعة متوفرة خاصة في أعياد الميلاد أطير فرحا لأحمل المتاع.... حقيقة ينظر إلينا النصارى بعين دونية وفي الطريق أيضا وفي الجمارك ،لكن لا يهم ...إذا أرادت الدولة أن نتوقف من استيراد نفاياتهم عليها أن تراعي ظروفنا وظروف أزمتنا.... فحين ندخل المجال الترابي لأسامر أو الجنوب الشرقي نحس بالفرحة والانتشاء لأن الجميع يحترمنا ،وطارت شهرتنا في حسن التعامل وهي ذي الحياة فمن أراد أن يعيشها مرتاحا فعليه ألا يتواكل بل عليه أن يتوكل على الله ولا يقعد ويمد يده للآخرين فالله هو الرازق المنان...
فالواقع أحيانا يحضنا على عض الجراح لضمدها قصد تجاوز اليأس والبطالة لتستمر الحياة..... وحكاية الحاج بولحية فيها تحد وصمود فلم يرض لنفسه الهوان والذل والعيش على الفُتاة وحدب اللائمين والعاذلين ...فتحية له ولكل من يشق الفجاج من أجل حياة أسعد.