زايد جرو - الرشيدية / جديد انفو

لقد طبع الفيروس الحياة  بالمدينة بالغرابة وعمق التفكير في العلاقات الاجتماعية ، وكل يوم تصدر لائحة للمصابين بعد اجراء التحاليل المخبرية فيتبادلها  الجميع وفي تبادلها حِكَم وعِبر لمنع الموظفين والمصابين من الالتحاق بمقرات العمل او بالمدارس أو بالجامعة وليتعظ الناس ولو قليلا فتبدأ البرقيات والمكالمات ' رأيت اسمك في لائحة المصابين ياك لباس ' ويشيع الخبر بين الاسر والعائلات ويبتعد الجميع عن مجاورة الجميع  خوفا من نقل العدوى ، فانتهت المزايدات خارج البيوت بهذه اللوائح اليومية  التي يقرأها الكل بدقة ويتمعنون فيها أكثر من  قراءتهم القرآن  الكريم وتمعنهم في مضمون ٍآياته وهي شبيهة  بلائحة الناجحين والراسبين في المباريات  ،فتوحد الخطاب بترتيب جديد لكل مجالات الكلام .. وتقبل الناس بشكل  مر عدد المصابين والمتوفين دون توتر مقارنه مع الزمن الجميل لكورونا في بدايتها يوم كان المتعافون يُستقبلون بالورود والزهور والتمر والحليب ويتزاحم  ويتسابق الإعلاميون من اجل الفوز بتصريح من ناج او ناجية من مخالب المرض الفتاك الذي سافر من بلاد بعيدة لها مكانتها العالمية في الترتيب الدولي القديم والجديد  ليصل بلاد ' وزّون' المسكين الهادئ في واحاته بالجنوب الشرقي.

الناس المصابون بالفيروس  في عزلتهم  بالبيوت  والمطالبون بتتبع الوصفة العلاجية التي يغيب عنها الفيتامين " س" سيد الدواء الذي تهافت عليه الجميع وكانه الدواء السحري المنقذ من جبروت الموت ،البعض يختزنه خوفا من الاصابة والكثير يبلعه دون وصفة للحماية المسبقة ..عاد المصابون  للنبش في الذاكرة والبحث عن  الامجاد المطوية وعن اصدقاء الطفولة عبر الاسترجاع ونسجوا الحكايات المضحكة التي تذل الرجال  ومحاولة فك لغز مصدر الاصابة التي نقلت لهم العدوى رغم الاحتياطات المفرطة وتتبع توجيهات الجهات المسؤولة لتجنب الاصابة او نقلها للمحيطين والمحيطات بهم .

الناس غير المصابين والمتعفنة افكارهم يستبلدون  ويستحمرون المصابين ويستخفون بهم وكأن اجسادهم هي من صنعت المرض ، في حين ان الكثير من هؤلاء المصابين لهم الشجاعة الزائدة على الاقل وتطوعوا  تلقائيا  بالأعراض او بدونها لإجراء التحاليل وعلى نفقاتهم للتمكن من معرفة وضعهم الصحي لتجنب نقل أي اصابة للمحيطين بهم في العمل  او الشارع لانهم يحتكون يوميا بزبناء من مختلف الاعمار والفئات  .

يحكي المصاب 'حمّان' بألم شديد عصرة الدواء التي كانت ترهقه ليلا وهو وحيد في مأكله ومشربه ونومه، ويحتسب الدقائق المتبقية من الليل علّه يسمع صوت الطيور الصباحية الذي يأتيه من مكان بعيد والذي تعود عليه بعد صلاة كل فجر... اسرته بجفون دامعة وبعيون متربصة لا تنمام تتابع كل حركة تقلب ذات اليمين وذات اليسار وتتحسس صوت ونوعية السعال والتنفس من بعيد ...عيون ام واطفال مرهقة تنتظر عودة سندباد من السفار   وتسبح بالليل والنهار في انتظار عودة المطر و الخصب ...من حين لحين يبرقه صديق بعيد  فيحكيان ،وحين أخر يكلمه صديق قريب  ويحكيان ايضا ،ويثقل نفسه بالغطاء كما تنصحه امه من بعيد وكم حمد الله في الصبح والعشي ان والديه الطاعنين  في السن وزوجته و ابناءه لم يصب احدهم بأذى رغم انه كان يشارك بعضهم  كل شيء قبل اجراء التحاليل.

'حمان ' المسكين ابتلع كل الأدوية وانتهت ' عصرة ' الوصفة الطبية  واستحم ومشط ما تبقى من شعر بـأعلى راسه  وتعطر كثيرا ولبس الجديد كانه  عريس او كأنه  في يوم عيد وله الحق في ذلك لأنه انفلت من عصرة ' عزرائيل ' ومن غصة وعضة المرض الذي لا يمهل مرضاه كثيرا ،خرج من الباب التفت يمينا ويسارا ليختبر ويقرأ نظرات الآخرين له ، لم يلاحظ نفورا ممن لاقاهم  وكبرت الثقة في نفسه وزادت حين قرأ السلام على ' مُولْ الحانوت ' بالجوار الذي يبيع كل شيء في دكانه ورد عليه السلام بحرارة دون السؤال عن غيابه عن التبضع هذه الايام.

 جال  ' حمان ' بالمدينة قليلا  تحت نظرات شرطة  تقوم بما يلزم طول النهار والليل، الشوارع ممتلئة وكأن المرض انتهى  وكلاب وقطط ضالة  هنا وهناك ،وبعض المارة يحملون المتاع وتحت ابطهم اوراق ادارية فتذكر الوثائق التي  يباشرها ويشتغل فيها يوميا والتي ربما نقلت له العدوى  وحاول تجنب كل التعقيدات والتوترات التي تزاحم تفكيره بعد الخروج .. عبر الطريق  من شارع لأخر وغطس في ازقة حية  كل صباح ومساء  دون احساس بالحرب ضد فيروس غريب يستوجب  الانضباط والالتزام للابتعاد عن الخطر. . حط الرحال  بعد تعب قليل بالمقهى المحبب لديه نظر لمن حوله فقرأ في أعينهم البلادة وسوء الاحترام والتقدير لهوس وألم المرض  لكنه لم ينبس بكلمة واحدة .

سؤال كبير جال بخاطر 'حمان ' وعاد القهقرى من جديد للسؤال القديم المحرق والمحير حول دوافع اجراء التحليلات  تطوعا أهي المسؤولية الزائدة التي يحس بها كل ضمير حي ام هي '  خِفّة الرّجْل ' على نغمات الفنان اسماعيل احمد ونغمات الفنانة المتألقة  لطيفة رأفت  في اغنية ' آش داني  علاش مشيت' ليترك البحث عن الاجابة المقنعة  لاحقا ويعود لبسط طبيعة الاختلاف الذي نحن فيه  في تحمل العبء  لتجاوز الكوارث .

عاد المصاب المعافى  ' حمان  ' للعمل بشكل طبيعي ولم يلُم احدا لأنه لم يهاتفه في محنته  حيث تعلم  من كبار الكتاب والفلاسفة والشعراء أن الخير في الناس مصنوع اذا جبروا  وأن الشر متأصل فيهم ولو قبروا ،وانك لو سقيت الكرمة بماء الحنظل لن تجني منها الا الثمار، ولو سقيت  الانسان بكوثر دمك لن تجني منه غير التجاهل والنكران  ، وهي القيمة  التي قوته وزادته مناعة في عمله من جديد وقد علمته كورونا في خمسة عشر يوما ما لم يتعلمه في المدرسة ولا في العمل لمدة تزيد عن الثلاثين سنة  .

 تلذذ  ' حمّان ' كثيرا بيوم خروجه الذي رأى في مدينته ما يستحق الابتسامة وأغمض عينيه دقائق معدودة  ليعلم أن رؤية النور وحدها تستحق  الحياة وما المرض وما الخذلان وما التافهون الا تطبيع بين الفساد والمجتمع ،لدرجة تصبح فيه الفضيلة خطيئة تستوجب العقاب ،والخطيئة تغدو فضيلة الفضائل. وتغدو الطيبة  ايضا حمقا والخبث عبقرية ودهاء وذكاء.

اضاءة . "حمان"  اسم مستعار  املته طبيعة الحكي واي تشابه في الاسماء والاحداث والوقائع هو مجرد صدفة.