مولود بوفلجة/ جديد انفو
ودع أهله بعد أن قضى معهم عطلة نهاية الأسبوع، ودعته الوالدة و قد حملته من دعوات الرضا و الستر ما ذهب به مطمئنا مرتاح البال. تأكد من أن الزوجة و الأبناء مطوقون بأحزمة السلامة ليس من أجل السلامة حتما و لكن تفاديا للبروصيات. أدار المفتاح و سخن مرة و مرة و مرة لأن الجو بارد و تفاديا لأي إحراج..انطلقت السيارة لأمتار قليلة و خفف السير احتراما للإشارة المرورية أشار له الشرطي بالسير و عند مخرج المدينة ـ الريش وجد نفسه أمام حاجز الدرك لم يستوقفوه لأن سيارته مألوفة عندهم و لأنه لا شك في أمره و أمرها و أمر وثائقها.عرج على اليمين متوجها إلى مدينة الرشيدية ..اقترب من بلدة كراندو و استفزته كلمة تالسينت مدينة الكذبة الكبرى و البترول الموعود الذي كان سيجعل من المنطقة خليج المغرب. كتم ضحكة كادت تفضح تفكيره و تدخله في نقاش طويل مع زوجته..
توقف قليلا بحامات مولاي هاشم ليملأ ما بالسيارة من قارورات من مائها الذي سمع، دون أن يصدق، أنه يشفي من بعض الأمراض ويصفي الكلي. يفعل ذلك عادة إرضاء لمن معه و لأنه "ما خاسر والو".. كانت فرصة لطفليi لبرهة لعب و جري و تبادل رش بالماء الدافئ..عبأ و انطلق.. لم يتوقف بحامات مولاي علي الشريف لأنه في عجلة من أمره و "الحمات خصها نهارها كامل مكمول".. فكر لأول مرة في سبب نسبة الحامتين إلى الشرفا رغم تواجدهما بمنطقة أمازيغية، قطع تفكيره دخوله لغار زعبل الذي يداوم المخازنية على حراسته دون أن يعرف للأمر سببا معقولا. لقد أصبح النفق الذي شقته السواعد و البارود في زمن الاستعمار حْدادة فاصلة بين الرشيدية و ميدلت، بين الصحراء والغرب. لقد أصبح أهل تعلالين و بجرة تقسيم جهوي من أهل الغرب.تذكر حينها ''حنابو الكورتي'' بشبه محطة الريش الطرقية بقامته القصيرة و صوته المبحوح الخارج من بئر حنجرته و هو يصيح: الصحرا الصحرا،نداء للمسافرين القاصدين أرض تافيلالت.
سار كليمترات معدودة يتمايل مع المنعرجات و يجهد محرك السيارة لتسلق العقبات إلى أن أطل على بْحر البْلاد البَارَاج، تبادل حديثا مكرورا مع زوجته:
-الباراج خاوي هاذ العام
ـ كاين الجفاف الله ارحمنا برحمتو
خفف السير، توقف عند حاجز حراس الباراج من الدرك اقتحمت عيون أحدهم السيارة للتأكد من أن الأطفال يضعون أحزمة السلامة...
مدينة الرشيدية ترحب بكم ..لم يتردد في تخفيض السرعة إلى أقل من 50 كلم في الساعة، زيادة في الاحتياط، توقف عند علامة قف للحاجز الأمني الثابت نظر إليه شرطي ثم استدار إلى الجهة المقابلة فقال في نفسه لا بأس إنها رحلة في درب تعلم الصبر، هو الذي يفتقد القدرة على ضبط النفس، و تذكر حكمة لالبير كامو''ليس هناك أحقر من احترام مبني على خوف''. انطلق بعد الإشارة بسرعة مستفزة و أشاح بوجهه تعبيرا عن عدم الرضا ثم حكت له زوجته من وحي اللحظة حكاية طريفة لجد أبناء عمها ''بابا علي'' و قد كان رجلا طويل القامة قوي البنية اجتمعت فيه مواصفات الشدة و الحزم و الحكمة قال لابنه الذي كان يصر على أداء التحية لكل من مر بهم في طريقه من رجال المخزن و كانوا غالبا لا يردونها قال له: خاصك أولدي اللي يْكْمّْط لك ايديك أضحكته الطريفة و طرائف أخرى استحضرها للمرحوم.
تغير محيا المدينة و تغيرت ملامحها.. انتبه إلى مجموعات متفرقة من الشبان و الشبات لا يمكن أن تخطيء العين أنهم طلبة، هم غالبا من أبناء المدينة و مدن الجوار الصغيرة غبطهم لأنهم لم يغتربوا و لم يضطروا لشد الرحال لطلب العلم لكنه عاد و حمد ربه على أن الجامعة لم تكن هنا أيام دراسته و إلا ما كان ليسافر إلى مكناس و فاس و يمر من زايدة و يحج بالحاجب. شده حنين قوي لأيام "لافاك" أيام العشرة الطيبة و حياة العزوبية "أُولَا هْمّْ أَرَاسي ..أوقف سيل ذكرياته منبه سيارة. عرج على اليمين في مدار وادي الذهب مر بقرب محل داسيا لبيع السيارات واستيقظت فيه الرغبة الدفينة في استبدال سيارته "أُو لْهْلَا يخلي لبوموارث ما يورث.. حافظ على سير سلحفاته البطيء لأن أهل الحسنات أخبروه بإشارة ضوئية إلى أن أصحاب الحال شادين العسة بالرادار. تجاوزه بسلام شغل الموسيقى فملأ فضاء السيارة صوت بّا محمد باعوت :"ما بدي ما ندير يا مولاي ما بدي ما ندير ما بدي حيلة ....ارجال البلاد امولاي أرجال البلاد راني فحماكم "على نغمات سنيترة الشريف الحمري. دبت في جسمه قشعريرة انتشاء و حنين وانطلق في فيافي صحراء صحصاح لا يقطنها بشر و لم تعمرها الدولة بحرث و لا شجر، اللون الداكن هو سيد الفضاء و الشمس ساطعة متربعة في كبد السماء بعد أن مسحت الغيوم مسحا فحولت الأفق صفحة زرقاء صافية تتوعد الدواب و العباد و الأرض بالبرد والجفاف غير أبهة بالدعوات و بصلوات الاستسقاء ..الأرض خالية إلا من بعض رعاة يجترون أيامهم في هذه الشعاب والوديان ويتعقبون قطيع معز أو غنم يقتات الشوك و السدر و الميكا و يلحس التراب و الحجر في صراع مرير من أجل البقاء
اسدرم المنحدر إعلان عن نهاية طريق تطيله وحشة المكان ..وقوف اضطراري مرة أخرى عند حاجز درك كلميمة.يمر بالمدينة عادة مرور الكرام "شايلاه أرجال البلاد" لكنه ملزم بتخفيض السرعة مرات متكررة أمام هذه الحفر و المطباتو المدارات التي استمرت فيها الأشغال لمدة تكفي لبناء سورالصين العظيم.
طوى مسافة 25 كلمتر في دقائق و ها هي تنجداد مدينة أعواد الريح و الدوكيير أهلها من مستعملي الدراجات يتشبثون بحقهم في الكودرون و لو أدى بهم ذلك إلى حادثة قد تكون مميتة روى لزوجته التي كانت تسترق لحظات نوم حكاية رواها له صديقه حميد رجل الأمن الذين لا يشك أبدا في نزاهته. استوقف حميد رجلا مسنا بدراجة "بالو" في مدينة أرفود و نبهه إلى ضرورة الالتزام بالسير على يمين الطريق فرد الشيخ بنبرة الواثق من ذاته و منى حقه "وش انا فبلادي أو نمشي عل اليمين" ذكرته أنه قص على مسمعها الحكاية مرات عديدة و أضافت قائلة: "رد بالك حتى نخرجوا من تنجداد"
في الطريق بين تنجداد وتنغير تجاوزته سيارة من فاصلة سيارته و من الموديلات التي تحتقرها العين فتحركت بداخله نزعة العناد أو "قْلّْتْ ما ترضا" و لم يرتح إلا و هو يتركها وراءه و همس لزوجته "ما زال الطموبيل عندنا نحيلة و خا داكشي" ..تجاوزه بعد ذلك سرب من السيارات و تأكد بأن "كُل غالب أو مغْلُوبُو" و بأنه عاش من عرف قدره و قدر سيارته ..أوقفه درك البْراشْما ديال أنيف التي يسميها أهل المنطقة الديوانة طلب منه أحدهم بعد التحية الوريقات. أصر على أن يقدمها له واحدة واحدة ليُؤَكد أنه شيفور أسيان ردها اليه الدركي وثيقة و ثيقة أدخلها في المحفظة بتأن وهو يحس بنشوة فخر لأنه مْرِيكْل أُوْرَاقُو ناضْيين.
زاد من صوت الموسيقي، ماية بلدية خاتْرة تحرك الأشجان و تغري بالتوقف للحظة للتماهي معها والرقص على نغماتها..طلب منه آدم ان يسمعه أُغنية "أنا مواطن" التي أحبها من كثرة سماعها، رضخ لرغبته فهو لا يستطيع أن يعصي لأبي البشرية و لا لأخته أمرا.
فتحت له مدينة تنغير هي الأخرى حضنها بحاحز أمني. توقف عند علامة قف تبادل التحية مع مفتش يذكر له جميل استقباله حين كانا طالبين بمكناس، تبادلا كلمات عتاب لطيفة. سأله رجل الأمن عزيز عن حال البلاد والبْلْدي أجابهم بالسرعة التي يقتضيها المقام وانصرف.
توقف بسوق المدينة ليتزود بعشاء ليلته، وهالته كثرة البدل الزرقاء والخزية تملأ المكان الذي أصبح خاليا من الفراشة الذين دخل عليهم العام الجديد بخلا دارهم وقطع الأرزاق.
هو الآن بمنزله أسند رأسه للوسادة ليرتاح قليلا، وهو بين النوم واليقظة، إختلطت بين عينيه الألوان وحلم بنفسه في قلب تضاريس أفغانستان في رحلة طويلة نحو كابول.. ألوان زرقاء، ألوان رمادية ألوان خزية. ظل على ذلك الحال لمدة لم يستطع تحديدها حتى أيقظه صوت المذياع هنا إذاعة الرباط.