يرتبط التديّن بالانتحار منذ أقدم العصور، حيث كان معنى "القربان" يمثل نوعا من التضحية بالنفس من أجل الآلهة واهبة الحياة والخيرات، والحامية من أخطار الطبيعة. كان "القربان" يعتبر نفسه، وتعتبره الجماعة، هبة للإله، ما يجعل حياته الدنيوية أقل نفعا وأهمية، أمام ما ينتظره من حياة أفضل بجوار الآلهة بعد الموت، وكان عدوله عن تقديم نفسه قربانا يجعل منه شخصا ذليلا محتقرا داخل الجماعة. لم يتغير كثيرا هذا المعنى في الديانات التوحيدية، حيث تحولت فكرة القربان الأصلية إلى "الأضحية"، إلى نوع من الطاعة يُتقرب بها إلى الله كالصدقة والذبح والنذر، مع الاحتفاظ ببعض الشعائر والطقوس وتطليق أخرى، بينما ظلت الحروب المقدسة تكرس فكرة التضحية بصيغة أخرى مخالفة، فالذين يموتون من أجل الدين ومن أجل الإله، يدفعون دمهم مقابل رضا الله، كما أنّ مصيرهم الجنة بجوار ربهم.

هذه الفكرة سرعان ما تحولت في نمط التدين الإسلامي الشائع إلى ثقافة، تتمظهر أساسا في إعطاء الأولوية للدين على الإنسان، ما قد يصل في لحظات درامية إلى التضحية بالحياة من أجل الدين، كما يحدث لدى بعض المرضى بالسكري الذين ينصحهم الأطباء بتجنب الصيام حفاظا على صحتهم، لكنهم يصرّون على الصوم حتى الموت، أو الذين يتم نصحهم بعدم التوجه إلى صلاة التراويح أو إلى الحجّ بسبب ضعفهم، نظرا لما تتطلبه هذه الشعائر من جهد وخوض للزحام، فيصرون على ذلك حتى يهلكوا. والغريب أن كثيرين منهم يعبرون عن الرغبة في "الشهادة" والموت في الحجّ أو في صلاة التراويح، ويعتبرون ذلك من أسباب السعادة في الآخرة، رغم أن الفقهاء والأطباء ينصحونهم بخلاف ذلك.

غير أن هذا ليس تحديدا هو ما يفسر ما حدث مؤخرا بباريس من وقائع درامية، فالظاهرة الإرهابية الجديدة، وإن كانت تتصل بهذا المعنى القديم الذي ذكرناه، إلا أنها تختلف في سياقها وأبعادها كذلك.

الانتحاريون الجدد هم في الغالب من أبناء الأحياء الهامشية، الذين يعانون من شعور كبير بالغبن، وبقدر من مشاعر النقمة على الدولة والمجتمع، وهي نقط ضعف تعرفها التنظيمات الإرهابية وتعتبرها مصدرا هاما لاستجلاب الانتحاريين. لكن لا يكفي الفقر والتهميش لتأجيج مشاعر الانتحار، إذ لا بدّ من تهيئة الفرد وإعداده لتلك العمليات الخطيرة، ونظرا لوفرة المال ووسائل الاتصال الأكثر حداثة، فإن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من بضعة شهور (ما بين 6 إلى 8 أشهر حسب الأخصائيين).

في عملية "التكوين" هذه يتم اعتماد المفهوم الديني المشار إليه للتضحية، لكن قبل ذلك لا بدّ من عزل الشاب عن محيطه عزلا تاما، وقطع أواصر القرابة بعائلته وذويه، وبكل الأصدقاء الذين يمكن أن ينقذوه من مصيره الأسود، وتعتبر عملية العزل أكبر عوامل النجاح في صناعة الانتحاريين، وهي مبنية أساسا على تنفير الشاب من محيطه باعتباره محيطا دنسا ومنحرفا وملعونا.

بعد العزل تأتي مرحلة "التربية"، وهي التي تقدم فيها للشاب نصوص دينية كثيرة يتمّ انتقاؤها بعناية، ونظرا لعدم إلمام الشاب بالدين الإسلامي وبنصوصه وسياقاتها، فإنه لا يتوفر على إمكانية فهم النصوص خارج المعاني التي تقدم له، فيصبح الشاب أمام خطاب إلهي يأمره أمرا بفعل شيء لإنقاذ "الأمة" مما هي فيه من مذلة، فتتحول فجأة كل عناصر احتقار الذات إلى عناصر قوة وهمية واعتزاز بالنفس: يصبح الشعور بالتهميش نرجسية وإعجابا بالذات، ويتحول الإحباط إلى ضرب من الحماسة الزائدة التي تشبه الخبل، وتصبح النقمة والغضب نزعة عدوانية ضدّ الكلّ، وتنقلب السلبية إلى دينامية مفرطة، وأزمة الهوية والاغتراب إلى معانقة "الأمة" التي تتجاوز الحدود والدول. وتلك هي الشرارة التي تجعل كل شيء بعد ذلك يبدو عديم الأهمية والجدوى بالنسبة للشاب، فيتضاءل العالم كله أمام الرسالة العظيمة التي أصبح يحملها.

ومن أبرز العناصر التي تستعمل في تشكيل شخصية الانتحاري نصوص الغزوات والحروب الأولى في تاريخ الإسلام، حيث تعتبر العقلية الإرهابية أن "عزة الإسلام" إنما هي في القوة العسكرية وحدها، والقدرة على القهر والغلبة. ونظرا لأن الإرهابيين يفهمون النصوص خارج أي سياق تاريخي، فإن هذا ما يفسر قيامهم بنفس السلوكات التي تمت خلال الحروب القديمة مثل قتل السكان والتمثيل بأجسادهم، واغتصاب النساء باعتبارهن "سبايا" وبيعهن بعد ذلك، وتخريب الآثار والمعابد القديمة، وهي أمور تستهوي الشاب الذي عانى من كل أنواع الحرمان منذ طفولته.

عند استكمال مراحل "التربية" يمر الإرهابيون إلى المرحلة الثالثة في تكوين الشاب وإعداده، وهي مرحلة التدريب المباشر على السلاح وطرق استخدامه، وأنواع الاحتياطات التي ينبغي اتخاذها من أجل نجاح العملية، وكيفية التصرف في الغدر بالآخرين وقتل أكبر عدد من الأبرياء.

هكذا تقوم النزعة الانتحارية الإرهابية على المقابلة بين قبح الواقع وتعاظم المثال، لكنها وهي تمر عبر المراحل الثلاث المذكورة، يكون الهدف الرئيسي دفع الشاب إلى كراهية الحياة وحبّ الموت، وهو ما يجعل الانتحار نهاية لقبح العالم في ذهنه، وبداية تحقق المثال، وفي هذه المرحلة بالذات يكون الشاب قد بلغ نقطة اللاعودة.