يعد موضوع الإرهاب الفكري والتطرف الديني من أهم المواضيع التي تثير اهتمام الباحثين على اختلاف مشاربهم الدينية والفكرية والسوسيولوجية والأنثروبولوجية...، وذلك بسبب انتشار هذه الظاهرة في العالم الإنساني، وباعتبارها عملا يهدف إلى ترويع فرد أو جماعة أو دولة بغية تحقيق أهداف لا تجيزها الأديان السماوية والقوانين المحلية أو الدولية.
واللافت للنظر ونحن نقارب هذه الإشكالية هو حين يعمد بعضهم ــ وهذا راجع بطبيعة الحال إلى خلل معرفي ومنهجي ــ إلى اعتبار النص الديني محور الظاهرة التطرفية العنفية، يتجلى ذلك على سبيل المثال في كتابات الأستاذ نبيل عبد الفتاح كـ"المصحف والسيف"، أو كتابه "النص والرصاص" وهذا الأخير يفصح فيه كاتبه عن ارتباط وثيق بين المعرفة والأيديولوجيا، عندما يجعل من العنف بنية داخل الخطاب الإسلامي، وعلاقة متعدية من النص إلى الرصاص، وفي نفس السياق كتب الأستاذ أحمد عصيد يقول: "إذا كان الإسلام دينا بريئا من كل النعوت السلبية وليس فيه مشكل في حد ذاته، فأين يكمن المشكل إذن؟، ما دام المسلمون يبررون كل مشاكلهم مع العالم ومع بعضهم البعض وكل أخطائهم انطلاقا من الدين ومن نصوصه" ، من مقاله: "أسئلة الإسلام الصعبة".
هذا التصور الوهمي لا يعدو أن يكون بمثابة إحالة إلى خطاب استشراقي سائد يرى أن الدين الإسلامي هو دين التطرف والعنف والسيف، بمعنى أن التطرف والعنف يمثل بنية داخل الخطاب الإسلامي وبشتى فروعه.
إن هذا الانزلاق العلماني المتطرف والنظرة الاستشراقية المبتذلة لظاهرة الوحي الإلهي تدل على ضيق الأفق وعدم الرغبة في الاعتراف بفضل الإسلام على العالم الذي نعيش فيه. ما يجعنا نعتبره إرهابا فكريا نتيجة الفهم الخاطئ لحقائق الدين الإسلامي بغية الحصول على مبتغى ما بشكل يتعارض مع القوانين والمفاهيم الاجتماعية السائدة، وفي ذلك يقول المفكر الهولندي الكبير "أدريان رولاند hadrian reland " في كتابه "الإســلام": "إن أغلبية الأديان قد وصفها أعداؤها بشكل سيئ، وكل الأديان فهمت بشكل خاطئ، ومن ثم تعامل معها أعداؤها بشكل خاطئ أيضا، ولذلك يجب ألا نندهش إذا حدث الشيء نفسه مع الإسلام". بمعنى أنه منطق ولغة يستخدمها هذا التوجه المتطرف لترهيب الناس بأفكارهم، وتدريب العقل على كره الدين، ليوهمونا بإحساس الهزيمة الفكرية، ويصورون لنا أن العالم كله في واد والمجتمع الإسلامي في واد آخر ويجعلوننا نعيش بوهم التخلف بسبب الدين.
وكثيرا ما يحرص الخطاب العلماني المتطرف على عدم إظهار الإنكار الصريح والمباشر للوحي الإلهي الذي يعمل به المسلمون منذ نزوله في عهد النبوة، وإنما يكرر دوما الدعوة إلى إعادة قراءة النص الديني بما يتوافق والمرجعيات الإنسانية الكونية، أو تفسيره تفسيرا يتناسب مع متغيرات التاريخ والثقافة، وهذا لا اختلاف لي معه، إذا كان الغرض منه تجديد الفقه الإسلامي من منظور "الثابت والمتغير في التشريع الإسلامي" وإعمالا لمقولة: "التقليد إبطال لمنفعة العقل"، لكن القارئ المتأمل في هذا المنتج العلماني المتطرف يلحظ جليا أنه يهدف ــ بما لا يدع مجالا للشك ــ إلى التشكيك في أصالة الوحي الإلهي نفسه وتجفيف منابع الدين، وهذا يعكس حقيقة التصور العلماني الشامل لمفهوم الوحي وطبيعته.
النتيجة الآن أننا أمام إرهاب فكري متطرف يحلل ويناقش ظاهرة الإرهاب والتطرف الديني من زاوية التشكيك في قضية الوحي الإلهي واعتبارها أصل الظاهرة، وهي دعوة إلى جعل الإنسان مركز الكون، ومصدر المبادئ والأفكار والمفاهيم، وهذه النزعة منبثقة بشكل أساسي من طغيان النزعة المادية على التفكير الإنساني، أي تغليب الجانب الفيزيقي الحسي على الجانب الميتافيزيقي الغيبي، والارتكاز على النزعة المادية، والنظر من نافذتها إلى قضية الوحي، فليس لنا أمام ذلك إلا واحدة من حالتين: إما أن نصدق تحليلهم ونقاشاتهم ونكذب أصل ظاهرة الوحي ولياقات العقل، وإما أن نصدق أصالة الوحي الإلهي ونكذبهم. بمعنى آخر: إما أن نحكم ببطلان وخطأ النظرة العلمانية المتطرفة في فهم ظاهرة الوحي، ونأخذ بما يدل عليه القرآن الكريم والأدلة التاريخية، وإما أن نأخذ بالنظرة العلمانية المتطرفة ونضرب بقواطع القرآن والبراهين العقلية عرض الحائط.
إذا كانت مستوردات مدنية الغرب قد أنتجت أجيالا لا يرقى تفكيرها إلى ما فوق عالم الأشياء والمادة والشهوة مما عطل التفكير ولياقات العقل الإنساني، وأوقع في حالة فساد باتت تهدد بنية المجتمع في حضارته وقيمه، فإن التطرف الديني كذلك ــ وهو عادة يحصل بعد توتر وانفعال ــ يؤدي إلى شلل التفكير عند أصحابه، والمتطرف الذي شل تفكيره الموضوعي في حالة الانفعال هذه تبدر منه تصرفات تسيء إلى جوهر الدين الإسلامي الحنيف، وقد يظهر أصحاب هذه النزعة على أنهم المدافعون دون سواهم عن الدين الإسلامي، ولذلك اعتبر الدكتور سعد السحمراني في كتابه "التطرف والمتطرفون" أن من بين أسباب انتشار ظاهرة التطرف الديني ما انتشر في بلادنا من عدوان على القيم، وضرب للأخلاق، واستفحال للفساد والانحلال، والاستعمار الغربي والأمريكي الثقافي والعسكري، المسئولون والحكومات المستبدة، الفقر والبطالة، الحق المسلوب، قمع الحريات وتوليد العنف، الإعلام وصناعة التطرف، الأطر الحركية المتعصبة وصناعة الإرهاب، مما أوقع آخرين تحت تأثير ردة الفعل لمواجهة هذا الغزو الثقافي الوافد.
على أنني في الأخير أنكر وبشدة التطرف والإرهاب العلماني وأيضا التطرف الديني الناتج عن ردة الفعل. ولا أندرج في خلة الاصطياف مع أعداء الأمة الإسلامية، الذين تفرغوا للتشويه والتحريف والاستعداء، من أجل إفقاد الأمة ثقتها بالذات، وإخراجها من حركة التاريخ، ودفعها بعيدا عن مسار استعادة المبادرة. والعقلاء من أبناء هذا الوطن معنيون بالتصدي المنهجي، المتزن والحكيم، للأطروحات الخارجة عن العقل وعن السياق التاريخي والثقافي لهذه المنطقة. ومتى فعلنا ذلك، فإننا نكون قد صُنا مكتسبات الحاضر، وحفظنا بأمانة مستقبل أجيالنا القادمة.وهذه مهمة سامية.