لا توجد قوة تفوق في التأثير الفكري وإنتاج مسار التغيير البشري والتقدم الحضاري، من طرح الأسئلة الفلسفية والفكرية، والمتتبع لتاريخ تطور الفكر والحضارة الإنسانية يقف على حقيقة مفادها أن الفلاسفة والمفكرين كانوا يثيرون الأسئلة الصادمة لتحريك العقول نحو التفكير في المسكوت والمجهول مما أنتج دراسات ومناهج تسعى إلى فهم غوامض الوجود والواقع، كما تحاول أن تكتشف ماهية الحقيقة، والعلاقات القائمة بين الإنسان والطبيعة، وبين الفرد والمجتمع، انطلاقا من التعجب والدهشة والتساؤل والرغبة في المعرفة والفهم. فهي مناشط تشتمل على التأمل والتحليل والنقد والتغيير بحثا عن جوابات مقنعة للعقل الإنساني.
ولم ينقطع هذا النوع من الصيد المعرفي للأجوبة والتأملات في دروس الفلاسفة العظام حول اكتشاف الحقائق ومعايير معرفتها، خصوصا ما يتعلق بقضايا الوجود وماهيته، والقيم الأخلاقية وحدودها المقبولة، والجمال والحكمة وغيرها من البواعث على السؤال الفلسفي الدافعة بالمجتمعات الإنسانية نحو نهضتها المنشودة.
وبناء على هذه الأهمية المنطقية للسؤال الفلسفي، لا عجب كان القرآن الكريم يستعمل الأسلوب ذاته في العديد من قضايا الإيمان الكبرى، التي تؤسس لرؤية كونية ممتازة تعمل على خط الوجود الإنساني الطويل، ليس الدنيوي فقط بل والأبدي، كقول الله تعالى في سورة الزمر الآية: 38: "ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون" فتأمل. ثم على الإنسان بعد أن تترسخ وتتقرر لديه هذه الرؤية الكونية المتكاملة أن يستغل ما تبقى له من إمكانات ولياقات وقدر علمية وعقلية وعملية تجريبية لتطييب حياته وعمران مجتمعه والنهوض بحضارته.
هذه المنهجية التساؤلية التي تقررت في تاريخ الفكر الإسلامي وخطت مسار الحضارة الإسلامية في نهضتها الأولى، كانت من المحرمات لدى بعض الأمم وأتباع الأديان الأخرى، خصوصا في السياق الغربي الأوربي خلال القرون الوسطى، التي كبلت عقول الفلاسفة والمفكرين ومنعتهم بالقوة والنار أن يطرحوا الأسئلة على إشكالات الدين والسياسة والأخلاق، وما انفكت تلك القيود إلا من خلال معارك التغيير التي قادها "بيكون"، "والباروخ سبينوزا"، "ورينيه ديكارت"، "وجون لوك"، "وفولتير"، وغيرهم، ربما نحو الضد المتفلت على ماضي الاستبداد والتخلف.
إن الذي يرامق ويتأمل المشهد الديني الإسلامي المعاصر لا يخطئ ملاحظة انطواء واشتمال هذا المشهد على أفول واضح وتهميش منقطع النظير لثقافة السؤال الفلسفي، والواقع يشهد أيضا أن هناك عللا وأسبابا تقف وراء هذه الحالة المرضية التي أدت إلى الوأد المبكر لمستقبل التساؤلات المشروعة للفكر الحر، ومن ثم إلى انحطاط الحضارة الإسلامية وتخلفها، ولذلك فالمشهد المعاصر يقضي بضرورة نشر ثقافة السؤال الفلسفي وذلك يعني عدم الاستجابة لراية الاستسلام للجوابات الجاهزة والمعلبة من دهور.
إن السؤال الفلسفي يبحث عن الإقناع العلمي والرسوخ المعرفي والجديد الفكري، ويقود المجتمع نحو حراك حضاري يشعل جذوة النور في كثير من الزوايا المظلمة، ويستنطق الكثير من الأفواه الصامتة الباحثة عن التغيير المنشود. فالنهضة تراكم أفكار وأفعال وليس قلب الطاولة على عقول الناس.
وللإنصاف فقد برز في واقعنا الإسلامي المعاصر تصور رواد التجديد الفكري يروم الجواب عن سؤال النهضة ومأزق التيه الفكري والفلسفي والأخلاقي، بدءا بالأعمال التي خلفها المفكر الإسلامي مالك بن نبي، والمفكر والمؤرخ علي شريعتي، والدكتور عبد الوهاب المسيري، والدكتور طه عبد الرحمان، والدكتور عدنان إبراهيم وغيرهم فالقائمة طويلة، انبعثت جهودهم التي أثمرت مدارس فكرية تتبنى المنظور المقارن وتمثل منصات للاجتهاد في الأطروحات المختلفة، وتلك كلها تجليات عظيمة لعقول فلسفية تريد تغيير الخرائط المختلفة وتجديد الرؤى والجهود لتحصيل الأفكار الكبرى للخروج من مأزق الانحطاط الحضاري العظيم الذي تقبع فيه المجتمعات الإسلامية المعاصرة.