يتضمن هذا المقال تأملات مقتضبة في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم العطرة، أهديها للقارئ الكريم بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف، أعرض من خلالها لجوانب من عظمة الشخصية المحمدية، "إذ أن السيرة النبوية والأسوة المحمدية إذا لاحظناها بعين الدقة والاعتبار هي المنبع الوحيد الذي تنفجر منه ينابيع حياة العالم الاسلامي، وسعادة المجتمع البشري". (الرحيق المختوم ـ بتصرف ـ").
فالحديث عن السيرة النبوية والتعاطي معها له قيمة عظيمة لا يحيط بوصفها البيان، لأنها المنبع الأساس لتقدم المجتمع الإسلامي في شقيه الديني والمدني، وهي إلى جانب ذلك تعتبر الصورة النموذجية التي يجب أن نسعى جميعا بمجتمعنا الإسلامي للوصول إليها.
ــ السيرة النبوية تأملات ونظرات في التراث والفكرالإسلامي:
قال الأستاذ عبد الرحيم مارديني: "لقد كان صلى الله عليه وسلم يدعى في الكتب السماوية (أحمد) وسماه عبد المطلب بن هشام عند مولده (محمد)، والقرآن الكريم أيد هذين الإسمين، و ما سمي بهما إلا لأنه كان من عادة العرب أن تطلق على عظمائها أسماء تعبر بها عما اتصفوا به من الخصال الحميدة، ولتكون دليلا على شرف المسمى، "بتصرف من:"هذا رسولنا".
أما عن نسبه الشريف فقد قال صلى الله عليه وسلم كما ورد في صحيح مسلم: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار من خيار".
وهو يجتمع في نسبه الشريف مع أنبياء بني إسرائيل وذرياتهم في إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والعلماء الذين جمعوا بشارات الأنبياء به صلى الله عليه وسلم قالوا: جاء في التوراة أن الله تعالى قال لهم ما معناه: "سأقيم لكم من أخيكم نبيا كلكم يسمع له، وأجعله عظيما جد"، "السيرة النبوية" للشعراوي.
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "إن الله تعالى فضل محمدا صلى الله عليه وسلم على أهل السماء وعلى الأنبياء"، "تفسير ابن كثير".
وروى الإمام مسلم في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"، فلم يولد ولن يولد من بني آدم إلى قيام الساعة أعظم من محمد صلى الله عليه وسلم،
والمتتبع لسيرته يعلم يقينا أنه بلغ من قمة الأخلاق حد الكمال الإنساني، ولذلك قال الله تعالى عنه: "وإنك لعلى خلق عظيم" [ن: 4]،وهذه شهادة ربانية عظيمة لا يحتاج بعدها إلى شهادة أحد.
قالت عائشة رضي الله عنها: "لقد كان خلقه القرآن"، فكان صلى الله عليه وسلم قرآنا يمشي بين الناس، بمعنى أنه اجتمعت فيه جميع الفضائل والمكارم من جود وحلم وشجاعة وعفو وسماحة وصدق وأمانة وغيرها، وهي في حالة من الكمال الذي لا مزيد عليه.
وقال الإمام ابن القيم في كتابه القيم "بدائع الفوائد": "قال العلامة ابن عقيل: سألني سائل: أيهما أفضل: حُجْرة النبي صلى الله عليه وسلم أو الكعبة؟.
فقلت: إن أردت مجرد الحُجْرة، فالكعبة أفضل، وإن أردت وهو صلى الله عليه وسلم فيها، فلا والله، لا العرش وحملته، ولا جنة عدن، ولا الأفلاك الدائرة، لأن بالحُجْرة جسد لو وزن بالكونين لرجح".
لقد كان حبيبنا صلى الله عليه وسلم بشخصه العظيم، يخدم الوجود ورب الوجود، ويخدم الناس وأمته خدمة من جاء ليعيش لغيره، وليس لذات نفسه، فكان يمنح الناس كل أسباب الرأفة والرحمة من أجل أن يدخل السعادة إلى قلوبهم ونفوسهم في الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم"، [التوبة].
وهذا هو الدافع الذي جعل بعض المفكرين الغربيين المنصفين إلى الإشاذة به صلى الله عليه وسلم، وبيان فضائله، ومن هؤلاء: العالم الأمريكي (مايكل هارث) الذي وضع النبي صلى الله عليه وسلم في أول كتابه "المأة الأوائل" باعتباره الرجل الأول في تاريخ الإنسانية كلها.
ــ السيرة النبوية في منظور الفكر الاستشراقي:
لما فطن خصوم الإسلام للدور الذي تقوم به السيرة النبوية في بناء الشخصية الإسلامية، ومن ثم المجتمع والحضارة الإسلامية، جعلوها موضع الإهتمام في أدبياتهم وأطروحاتهم الإستشراقية منذ العصور الوسطى التي بدأ فيها عهد الاستشراق عن طريق القساوسة والرهبان، وهذا الاتجاه كانت نظرته للسيرة النبوية سافرة بالخصومة، ومشوهة لها، وكانت محاولة لإقامة السدود والحواجز حول معتنقي الديانة المسيحية، ونوع من الحماية حتى لا يفكروا في اعتناق الدين الإسلامي الحق، أوالبحث عنه في مصادره الأصلية.
وعلى سبيل المثال لا الحصر ما ورد في موسوعة ( لاروس ) الفرنسية، فعندما لم يجدوا في سيرته العطرة ما يعيبه وينتقص من عظمته، اتجهوا إلى السباب والشتم فقالوا: "بقي محمد مع ذلك ساحرا، ممعنا في فساد الخلق، لصا، كاردنيالا، لم ينجح في الوصول إلى كرسي البابوية، فاخترع دينا جديدا لينتقم من زملائه، واستولى القصص الخيالي والخليع على سيرته"،ومن البلية ما يضحك.
ثم تتابعت بعد ذلك هذه الكتابات الاستشراقية، في محاولة لتشويه السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، إلا أن اللافت للنظر أن هذه الكتابات ــ بما تحمله من كذب وتزوير وخيانة للأمانة العلمية ــ كثرت في الآونة الأخيرة وبدأ يتجنى بها عدد من أحفاد المستشرقين وأتباعهم من النخب المتغربة، وهي في حقيقتها لاتنهض على شيء من الصدق أو الصواب، فهي مجرد أحقاد دفينة ترعرعت في قلوب ولاشعور القوم، وذلك لأسباب نفسية وثقافية وأيديولوجية شتى، لايتسع المقام لتفصيلها.
على سبيل الختام
إن السيرة النبوية الشريفة تمثل التطبيق الصحيح لتعاليم الإسلام الكاملة والشاملة، فهي الصورة النموذجية والمثال الذي يجب أن يسعى المسلمون بمجتمعاتهم الإسلامية المعاصرة للوصول إليه، إذ إنهالنبراس الذي يشيع بين أفراد المجتمع الإسلامي حب الحبيب المصطفى، وينير ببيان الأسوة معالم الهدى، في دروب الحياة كلها الدينية منها والاجتماعية والسياسية.