مولود بوفلجة / جديد أنفو
المناضل محمد الزركوني من مواليد قصر تازكارت بمدينة بوذنيب الرشيدية سنة 1960 ، قضى بها طفولته المبكرة ،هو أكبر إخوانه الخمس،انتقلت العائلة رفقة الوالد الموظف البسيط إلى مدينة قصر السوق(الرشيدية) وكان الاستقرار بداية بقصر تاركة القديمة ملتقى الأصول وملاذ الوافدين و الغرباء حيث الثقافة الشعبية أخد و عطاء و العيش بساطة و كفاف و العلاقات الاجتماعية تكافل و ألفة داخل القصر القديم المنفتح والرحب رغم انغلاقية البنيان. فكانت بداية تشكل شخصية الرجل أيام زمن الخير و البساطة و الحميمية في غابة تاركة و دار الشباب المدينة و ثانوية ابن طاهر و'' اليوسكا'' فريق كرة القدم أيام المجد الرياضي لقصر السوق حيث لعب حارسا للمرمى مع مجموعة من خيرة اللاعبين آنذاك.
امتهن الزركوني، غير مخير، حاله في ذلك حال كل أبناء الطبقات الشعبية،مهنة التعليم ليحل محل الأب المتوفى في الإعالة و الإنفاق و عين بمدينة تنغير و استطاع أن ينصهر بسرعة في نسيجها الاجتماعي، و مارس هوايته المفضلة مرة أخرى حارسا لمرمى فريق المدينة الكروي .تعلم اللغة الأمازيغية و اختار رفيقة دربه أمازيغية من بنات المنطقة وهو الآن أب لإلياس و أميمة و زياد.
جعل الرجل حياته وقفا على العمل السياسي و النقابي و الحقوقي، فكان له الفضل رفقة مجموعة من المناضلين في زرع البذور الأولى للحركية النضالية بمدينة تنغير وورزازات عموما. فكان من مؤسسي فرع النقابة الوطنية للتعليم وانتخب أول كاتب إقليمي لها حين استحداث الإقليم. وله الفضل كله في تأسيس فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان و بذلك أسس لثقافة الرفض و الاحتجاج و الفعل النضالي بالمدينة في ارتباط وثيق بإشعاعه الكبير على المستوى الوطني. فجعل نفسه في خضم المعركة النضالية الملحمية الخالدة لعمال منجم إيمضر و في معارك أرباب الشاحنات وسيارات الأجرة... و تقلد الريادة ممارسة و تأطيرا مستفيدا في ذلك من كاريزماه القيادية بفضل سحر الشخصية و قوتها و مراكمتها لآليات الاشتغال و التأثير والفاعلية... أنيق المظهر دون أثر استعراضي ،لا تفارق البسمة محياه ،يستحضر دائما وصية مانديلا لرفاقه بضرورة الاعتناء بالمظهر والهيئة لحظة المفاوضات حتى لا تخترقهم العين أو يكونوا محل استخفاف.
الزركوني شخصية سجالية ممتلكة لأدبيات التحاور والتفاوض وكثيرا ما كون و حاضر في ذلك. له قابلية كبرى للإنصات وقدرة أكبر على الإقناع لأنه سريع البديهة '' جوابو على طرف لسانو '' كما يقال، تسعفه في ذلك لغته المطواعة وثقافته الممتدة حريص على التحضير والإعداد و ترتيب الأولويات. إنه باختصار شخص منظم. يؤمن بأن أول الكسب تجنب الخسارة ،فكان في كثير من الأحيان يفرمل اندفاعية الشباب محكما في ذلك الموازنة بين الإمكانات و التطلعات. كان يؤمن أيضا بأن العنف هو لغة التخاطب الأخيرة بل كان يوجه عدوانيته إلى ذاته يراجعها ويحاسبها.
للزركوني موقف تعارضي واضح من المؤسسة الدينية بجناحها الرسمي و غير الرسمي لا يخشى في ذلك لومة لائم، منسجما مع مرجعيته الإيديولوجية وهو أمر لا نجده عند كثير من اليساريين الذين يراوغون المجتمع ويسايرونه.
الرجل اجتماعي بامتياز إذا طلبته فإنك واجد عنده ما أردت من حسن الإيجاب لكنه صريح حد الإحراج والاستفزاز مع الخصوم يمدهم بمسوغات استعدائه. ميال رغم انشغالاته الكثيرة إلى المؤانسة وتطييب النفس، مقبل على الحياة فقد كان يقول دائما: لك الساعة التي أنت فيها. مولع بالفن الجميل و الموسيقى خصوصا، سميع يترنم بأغاني الطرب الجميلة للشيخ إمام و مارسيل و فيروز وبلخياط... وصفحته على الفايسبوك تشهد.
يقيم لفن البلدي، و هو فن الرشيدية الأصيل، طقوس سماع خاصة لأنه الهوية و الأصل والطفولة والنوستالجيا عنده. مولع حد الجنون بمعزوفات صديقه شريف لحمري و بماياته التي تسحره و تجعله يرقص طربا.
قضى بتنغير ما يقارب ثلاثين سنة يحترف النضال و الحزن والفرح والانتظار وبنى لنفسه فيها أهلا آخرين، على حد تعبير فيروز، فلم ينتبه كثيرا إلى أنجاله و هم يكبرون و هو الآن يحاول ترميم ما خلفه هذا البعد.
رحل سي محمد عن تنغير مضطرا، ورب ضارة نافعة، بعد ما نال من بعض المتطفلين على العمل النقابي جزاء سنمار وعاقبة برومثيوس لأنه أهداهم شعلة الحكمة. فنغص عليه طيور الهاربيز حياته و استكثروا عليه التداوي في إحدى المصحات على نفقة النقابة . رحل دون النظر إلى الوراء لأن ما يؤلم حقا كما قال غيفارا هو أن يموت الإنسان على يد من يقاتل من أجلهم.
رحل المناضل إلى فضاء أرحب و هو مكناس لينبعث من جديد و ليجد شروط عمل أفضل'' فما ثناه كلام الناس عن النضال ..و من يسد طريق العارض الهطل''. ورفض كل دعوات التكريم التي وجهت إليه من تنغير لأنه لم يفعل في نظره سوى ما أملاه عليه الواجب والمبدأ و لن يزور المدينة كما أسر لي بلغته الطريفة في زي النقابي و إنما ستكون زياراته ''سفيل'' للقاء البقية المتبقية من الأوفياء
ذهب بعد أن رهن حياته و مستقبل أطفاله بالأقساط الشهرية التي سيدفعها بعد اقتناء شقة متواضعة، هو الذي لولا الوفاء و النقاء لوضع يديه على عقارات و أموال كما فعل الكثيرون ممن احترفوا الارتزاق النقابي. وأستحضر بكل ألم أيام بحثه عن منزل للكراء يأويه هو و عائلته بعد أن تشققت جدران البيت الذي كان يقطنه وهو في انشغال عن ذلك بحال العمال و الشغيلة.
رحل الرجل ولم تنمح صورته من ذاكرة الأوفياء ممن يكبلهم الاعتراف بالجميل وتنكر له الجاحدون ممن يتصيدون الزلات و الانتهازيون ممن خلت لهم الساحة ولسان الحال يقول:
" يقولون لا تبتعد وهم يدفنوني***** وأين مكان البعد إلا مكانيا"
يذكرني الزركوني، في كلمات مختزلة بإحدى شخصيات حيدر حيدر في رائعته "وليمة لأعشاب البحر":....صلب كصخرة حنون كالحمل رجل كالإعصار عندما يغضب وكالبحر الهادئ إذ يصفو. فلاح عنيد لكنه طوباوي يحلم باشتراكية الأرض"
ملحوظة: ليس مصادفة أن يكون نشر هذه الكلمات في حق المناضل الزركوني متزامنا مع الإضراب العام ومع الحراك النقابي الذي يشهده الوطن ومع ذكرى اغتيال الشهيد بن بركة...