احدى اهم الاشكاليات التي تشكل عائقا امام التنمية بالمغرب وخصوصا بالمدن الداخلية والمهمشة هي مسألة “الأولوية”. الأولوية للدولة ام للأقاليم؟ الأولوية للنمو الاقتصادي أم للتنمية الاجتماعية؟
لقد اعطت الدولة خلال العقود الأخيرة كل الاولوية لخدمة الصعيد الوطني بدل الصعيد الاقليمي والجهوي. فاستحوذت مناطق دون غيرها على ثمار مختلف التجارب التنموية وتفاقم التفاوت الإقليمي والجهوي، فظهرت جهات وأقاليم غنية مقابل أقاليم وجهات فقيرة معدمة منسية مهمشة. مثل منطقة الجنوب الشرقي بأقاليمها السبعة بالإضافة الى اقليم ميدلت.
حيث تم اعتبارها منطقة “مغرب غبر نافع”. هذا المصطلح الذي اخترعته الدولة من اجل توجيه برامج “التنمية” باتجاه مناطق دون غيرها، بحيث اعتبرت ان التنمية تقتضي ان تأخذ الدولة مقابل ان تعطي. أن تحصد قبل ان تزرع. فحصدت الدولة ثروات البحر ومدن الساحلية والأراضي الفلاحية في الغرب ودكالة عبدة وسوس والثروات الباطنية في خريبكة والصحراء مقابل شق الطرقات السيارة والسكك الحديدية والخطوط السريعة والموانئ والمناطق الصناعية والمناطق الحرة والمطارات والمشاريع الكبرى بدعوى القرب من موانئ التصدير ووجهت الاستثمارات السياحية باتجاه المناطق الساحلية بغض النظر عن موروثها الثقافية والتاريخي الذي يختزل هوية المغرب التي يريد السائح الأجنبي اكتشافها ودراستها.
في المقابل، تطالب الدولة بقية أقاليم المغرب المنسي المهمش بان “تنتج”، بان تتضاعف انتاجاتها الضريبية ان هي أرادت “التنمية” بالمفهوم الذي يتم تسويقه رسميا.
في الوقت الذي برز وعي متزايد لدى أغلب الدول المصنعة بوجوب أخذ المسألة الإقليمية بعين الاعتبار وبكل جدية مع مطلع الستينات لما لها من تبعات وتأثيرات بالغة الأهمية على الوحدة الوطنية والترابية وحتى مستقبل عملية التنمية. باتت الدولة المغربية تواصل نهج نفس السياسات التي اكل عليها الدهر وشرب وتجاوزتها التجارب الناجحة في الدول الصناعية. وها نحن اليوم، في 2014 نفكر ان نصيغ نموذجا تنمويا مناسبا للأقاليم الجنوبية الشرقية بعدا ان سبقتنا الدول المصنعة لصياغة نماذجها الناجحة منذ الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم.
ان نظرية التنمية بالنسبة للدولة تقول بأن النمو وارتفاع نسبه وتواصل نسقه من جهة وتوفير الثروة من جهة ثانية على المستوى الوطني يفضيان حتما على المستوى الآجل إلى “التنمية” مما ينعكس إيجابا على المستوى الإقليمي والجهوي. حيث يتم توزيع عوامل الإنتاج والموارد. وهذه النظرية خاطئة وأثبتت فشلها، بحيث اعتمادها أحدث الخلل في التوزيع حيث توجه عوامل الانتاج للمناطق التي تم تجهيزها وشق الطرقات بها وتوفير ظروف العمل بها بموارد الدولة، بينما تستفيد من مواردها الخاصة لتطوير بنياتها التحتية والخدماتية وهذا ما يحدث في اغلب “مراكز” الجهات المعتمدة حاليا. فنرى بان المركز يستحوذ على كل شيء. مقابل تهميش ممنهج مقصود بحق بقية الاقاليم والمدن مهما كانت اهميتها الاستراتيجية والتاريخية والبشرية.
من هنا، ومما بينته جل التجارب الميدانية ولو بفارق زمني طفيف، فانا اعتبر بان “النمو” الذي تسعى اليه الدولة لا يقترن دائما بــ”التنمية” التي يريدها المواطن، وأن تحقيق أنساق نمو مرتفعة ومتصلة لا يفضي بالضرورة إلى التنمية. فالنمو “تطور كمي” يستوجب “توفر الموارد” و “تغطية الحاجات” في حين أن التنمية لها “بعد نوعي” يتجاوز الحاجات الأساسية المادية.
في العالم المصنع وقع التفطن إلى تفاقم الاختلال بين المناطق بحيث تمكنت بعض المدن والمناطق من استقطاب كامل التراب الوطني والاستحواذ على نسبة كبيرة من الموارد والطاقات والإطارات والمؤسسات ومراكز القرار مثل باريس أو ليون في فرنسا، فرنكفورت أو هانبورغ في ألمانيا، لندن في أنجلترا، نيويورك أو طوكيو أو حتى موسكو في كل من الولايات المتحدة واليابان والإتحاد السوفياتي سابقا.
بجانب ذلك نجد هناك مناطق أخرى دخلت في أزمة عميقة نتيجة تراجع بعض الصناعات كالمناطق المنجمية بأوروبا وأمريكا والتي مثلت طوال الثورة الصناعية ركيزة البناء الاقتصادي وأدت إلى بروز مناطق صناعية تعتمد على الفحم والحديد والصلب (كما حدث بجرادة وبني تجيت وتالسينت بالمغرب) لكن مع التطور التكنولوجي وتطور عناصر الطاقة التي أصبحت تعتمد على النفط والغاز والكهرباء والطاقة النووية دخلت هذه المناطق التقليدية مرحلة التأزم مما أستوجب اعتماد سياسات مدروسة للإعادة توظيف المناطق ورسكلة اليد العاملة وبعث أنشطة أخرى جديدة لتخفيف البطالة والضغط الاجتماعي. في هذا الإطار نجد جل المناطق الصناعية التقليدية وخاصة مناطق استخراج الفحم والحديد مثل مناطق اللنكشاير واليوركشاير في أنجلترا، الشمال الفرنسي أو بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأمريكية.
بالإضافة إلى ذلك مثل عنصر الموقع مثلا عاملا آخر في انحباس بعض المناطق وعزلتها عن بقية المناطق أو فك انحباسها وجعلها في بؤرة شبكة النقل الطرقي والسككي… في هذا السياق نجد المناطق النائية والعميقة وخاصة منها المناطق الحدودية والجبلية مثلا تمثل هذا الصنف من المناطق المهمشة المأزومة والتي تطلبت تدخلا حازما من طرف السلطة في عدد من الدول الصناعية التي بادرت الى تصحيح الوضع.
كل هذه العوامل أدت إلى تعزيز الفوارق بين المناطق حتى وأن توفرت الاستثمارات وإمكانيات الدولة مما جعل التنمية الإقليمية تطرح بحدة أحيانا حيث شرعت جل الدول المصنعة في سن سياسات لتشجيع اللامركزية وتدعيم المدن الثانوية وتركيز أنشطة جديدة بالمناطق غير المحظوظة. ونجد في هذا الإطار اللامركزية في كل من فرنسا وألمانيا واليابان مع نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي كما تتنزل سياسة حواضر التوازن في فرنسا للحد من المركزية في العاصمة باريس حيث تم تحديد ثماني مدن لكي تقوم بهذا الدور من خلال بعث أنشطة جديدة في المناطق المحيطة بها وتجهيزات هامة للاتصالات: مواني، مطارات، طرق سيارة. ومن بين هذه المدن -الحواضر نجد ليون، مرسيليا، تولوز، بوردو وستراسبورغ…
اليوم، ونحن نناقش مقترحات التقسيم الجهوي الجديد, ترتفع أصوات معارضة لضم أقاليم الجنوب الشرقي لبعضها البعض تخوفا من محدودية مواردها وثرواتها الطبيعية, والتي ستشكل بلا شكل عائقا امام تحقيق التنمية المرجوة, خصوصا في ظل مواصلة الدولة إعطاء الأولوية لمسألة النمو الاقتصادي بدل توجيه مجهوداتها باتجاه توفير المزيد من الخدمات والتجهيزات بالمناطق النائية, وتوزيع عادل للثروات والمشاريع الضخمة المنتجة لليد العاملة التي تقضي على الفقر وتوفر مدخولا ماديا مناسبا لمواصلة الحياة والعيش في هذه الكيانات الثقافية الطبيعية التي خلقتها سياسة الدولة والمسماة بـ”الجهوية الموسعة او المتقدمة”.