يكتشف كل متتبع للشأن الثقافي بمدينة خنيفرة في السنوات الأخيرة أنها تعيش حراكا ثقافيا غير عادي، حراك يشمل مجالات كثيرة ثقافيا وإبداعيا، من شعر ومسرح وسينما و وملتقيات فكرية وحقوقية. وهو معطى يجب التنويه والاعتراف به وتشجيعه وتثمينه، لضمان شحنة الاستمرارية والدوام. ولكن في نفس الوقت يجب تقييمه و نقده من أجل تطويره وتحسين منتوجه قصد إثارة أكثر وفاعلية أقوى و تأثير أوسع. هذه النقطة الأخيرة هي موضوع هذه المقالة التي ترصد اهتمام النخبة بالمنتوج الثقافي وكيفية تعاطيها معه ، وذلك باللجوء إلى قراءة الواقع الثقافي المحلي وعلاقته نخبة المدينة به. طبعا المقالة هي عبارة عن انطباعات شخصية من خلال تجربة تنطلق بالأساس من معاينة هذا الواقع لسنوات .
لن أتيه في البحث عن معنى النخبة وتصنيفاتها و خصوصياتها أكاديميا، لأنها مفهوم مرن ومتغير حسب الزمان والمكان، فالنخبة في مدينة جامعية ليست كالنخبة في مدينة صناعية، والنخبة في مدينة كبيرة ليست كالنخبة في مدينة صغيرة.
الحراك الثقافي الذي عرفته المدينة تسهر عليه جمعيات مدنية وتنظيمات مهنية ونقابية وسياسية مختلفة، وهذا ما جعل مدينة خنيفرة تكسر قاعدة بعض مدن الهامش الميتة ثقافيا. حضورنا كمهتمين بالشأن المحلي للكثير من التظاهرات للتتبع الإعلامي أو المساهمة فيها من موقع ما ، جعلنا نسجل عدة ملاحظات حول علاقة النخبة بالمنتوج الثقافي وطريقة التعاطي معه، هذه الملاحظة سمحت بتصنيف النخبة المحلية إلى ثلاث فئات حسب مستوى انخراطها في هذه الأنشطة الثقافية.
فئة الصوم الثقافي : هي فئة تشكل الأكثرية، للأسف، ينتسب المنتمون إليها إلى قطاعات مهنية مختلفة، ولديهم مستوى تعليمي عالي ، كان من الممكن أن يحفزهم على حب الثقافة والإقبال على منتوجها في ظل غياب فرص أخرى للترفيه أو التنشيط الثقافي و لما لا المساهمة في التأطير الثقافي من داخل تلك التنظيمات. وما يلاحظ أن هذه الفئة يكثر فيها المنتمون للقطاعات التي لا تتعاطى مع الشباب : أي أن غالبية أطر الإدارات العمومية والمهن الحرة من أطباء و محامين و موظفين جماعيين ... لا يهمهم الفعل الثقافي بالمدينة رغم أنهم إلى جانب عناصر أخرى تنتمي لقطاعات ذات ارتباط بالشباب( رجال ونساء التعليم بالخصوص) حين يكون مقر عملهم في القرى النائية يلحون على الانتقال إلى المراكز الحضرية بدافع الرغبة في المساهمة أو الحضور في الأنشطة الثقافية، لكنهم بمجرد الحلول بهذه المجالات تظهر لديهم اهتمامات أخرى غالبا ما تكون مادية و مغرقة في اليومي ولا تقدم أية إضافة للمناطق التي يشتغلون بها.
هذه الفئة لها مبرراتها في هذا العزوف الثقافي فهي تارة تبرر ذلك بضعف المستوى التنظيمي لتلك الملتقيات، وتارة أخرى تحتج بدعوى أن العمل الجمعوي أصبح قنطرة للاغتناء والربح المادي باسم خدمة الثقافة والفن و البيئة ... بل هناك من يرفض الحضور بدعوى أن مضامين تلك الأنشطة لا تتلاءم و خطه الإيديولوجي.
فئة الولاءات: يمكن القول أنها أقل حجما من الفئة الأولى، ونقصد بها تلك النخبة التي تحضر أنشطة ثقافية خاصة، تنظمها في الغالب تنظيمات نقابية و جمعوية وسياسية قريبة منها إيديولوجيا أو عائليا، وتعمل هذه الفئة بمقولة "انصر أخاك" ثقافيا مهما كانت طبيعة النشاط ، هنا يصبح الحضور واجبا يبرره الانتماء. ويتجلى هذا الحضور الذي يكون اضطراريا عند بعض المنتمين إلى هذه الفئة في عدم الانضباط للوقت حيث يتأخرون في الالتحاق بالأشكال الثقافية، وحتى من يحضر يكثر من الخروج والدخول إلى القاعة في صيغة احتجاج ضمنية على الرفض، كما تسود الفوضى حيث ترن الهواتف و الأخطر أن البعض لا يخجل من الرد على المكالمات الهاتفية في العروض المسرحية مثلا. تجدر الإشارة إلى أن هذه الفئة تتشكل أساسا من رجال ونساء التعليم و والطلبة و التلاميذ.
هذه الفئة أيضا لها مبرارتها في هذا التعامل فهناك من يبرر ذلك بالرغبة في إرضاء التنظيم أو الرموز ( أب، استاذ، قائد...) وتجنب إحراجه خوفا من زعزعة مكانته في المشهد المحلي أو رغبة في ضمان التدخل في حالة مواجهة مشكل مع الإدارة. كما تبرر أطراف أخرى هذا النوع من الحضور الانتقائي في الاختلاف مع المنظمين إيدويولوجيا، فالحضور بالنسبة إليهم يفهم أنه تزكية الأطروحات المعارضة للتصورات التنظيمية التي ينتمون إليها.
الفئة العاشقة: هي فئة تشكل أقلية وسط النخبة الخنيفرية وهي دائمة الحضور في كل التظاهرات الثقافية بالمدينة ونواحيها، و المنتمون إليها تربطهم صداقات يعود بعضها إلى عقود من الزمن بسبب كثرة اللقاءات التي يشاركون فيها بشكل جماعي. هذه الفئة لا تجد نفسها خارج دائرة النشاط الثقافي ولا تفوت أية فرصة للحضور. فالهم الثقافي الذي تحمله جعلها تدمن على كل الملتقيات حتى وإن كانت بعيدة عن تخصصاتها. وهنا أستحضر أستاذا مواظبا و نموذجا للمثقف العضوي تربطه علاقة خاصة بجرائد معينة فهو لا يمكنه أن يستغني عنها حتى وإن كانت ظروفه لا تسمح له بتصفح مضامينها بشكل كلي، ما ينطبق على صديقنا ينطبق على هذه الفئة الثالثة.
المنتمون لهذه الفئة ينتسبون في الغالب لقطاع التعليم لاعتبارات كثيرة منها: ارتباطهم بما هو ثقافي من خلال المقرارت الدراسية وحاجتهم إلى تجديد معارفهم قبل أن يتجاوزهم تلاميذتهم، كما أنهم يشكلون أغلبية النخبة في مدينة صغيرة كخنيفرة، وهناك عامل تاريخي يتجلى في كون الأساتذة في طليعة الاهتمام بالثقافة و التغيير منذ العقود السابقة.
في الختام تجدر الإشارة إلى أنه يمكن رصد اختلاف آخر في حضور النخبة على المستوى النوعي ، حيث يقبل الذكور أكثر من الإناث على المنتوج الثقافي، وذلك راجع إلى طبيعة المجتمع الأبيسي الذي يحكم علاقتنا الاجتماعية فالمرأة المثقفة يكفي أن تكون زوجة لتسجن داخل المنزل لرعاية الأطفال والتكفل بشؤون اليومي، في حين تكون أولوية الحضور للرجل ( الأب ). فئة أخرى كان من المفروض أن تقود قاطرة الفعل الثقافي بالمدينة وهم التلاميذ والتلميذات والطلبة لكنهم غير قادرين على مقاومة المؤثرات العصرية المرتبطة بالإغراق في الفني ( موسيقى، رقص، انترنت ) و تتبع مباريات كرة القدم سواء في مدرجات الملعب البلدي أو على الشاشات الكبرى. هذا الولع الشبابي بكرة القدم جعل منظمي الأنشطة الثقافية يبرمجون أنشطتهم خارج أوقات تلك المباريات.
الوضعية الراهنة للثقافة بالمدينة تفرض على النخبة الفاعلة اختيار أساليب جديدة في تأطير شباب مستلب " حارك " وتقريب الثقافة إليهم وترغيبهم فيها وتشجيعهم على الانخراط والفعل الثقافي، لأن عاصمة فازاز ( الأطلس المتوسط ) تنتظر الكثير من شبابها ومثقفيها.