
حين يتحدث شعراء وأدباء متألقين عن مدينة مكناس ويصنفونها ضمن أجمل مدن المغرب، فليس لنا أن نستغرب أو نشك في الأمر. فمكناس من وجهة نظر "سعدي يوسف" مثلا، هي "مدينة لأهلها"، كما صرح حين استضافه ياسين عدنان ضمن إحدى حلقات "مشارف". ذلك لأنها حافظت على خصوصيتها ومظاهرها والكثير من بريقها وما يميز سكانها والمقيمين بها، رغم مظاهر التقدم والعصرنة. وهذا "ياسين عدنان" نفسه، يقر بما سبقه إليه سعدي يوسف " بهذا الواقعفي مقال جميل له تحت عنوان " الشاعر ياسين عدنان يكتب عن مكناس"، تطرق فيه إلى بعض خصوصيات المدينة ومميزاتها وإعجابه ببساطة وأناقة ساكنتها، وشموخ أسوارها، والحرف القديمة التي يصر أهل مكناس على التشبث بها وبعث الحياة فيها، وروعة منظر " أسراب هائلة من الخطاطيف تحوم بأجسادها الانسيابية البديعة فوق رؤوس الخلق حتى لتكاد تلامسها ثم تحلق عاليا من جديد وهي توطوط بأصوات عالية."
مناسبة هذا التقديم، ما يشد انتباه المرء بمكناس، مقيما وزائرا، من تفرد هذه المدينة الاسماعيلية، بثراء فكري وثقافي ومعماري وسوسيواجتماعي. ولن أدعي الإلمام بكل هذا الثراء، وليس هدفي عبر هذا المقال المتواضع القيام بجرد لها، إذ يوجد في الأرشيف من كتب التاريخ والأدب ما يغنينا عن ذلك. وإنما واستحضارا للحكمة البليغة القائلة " يكفي من القلادة ما احاط بالعنق"، فسأقتصر الحديث عن انبهار المرء بما تشاهده عيناه ويتأثر له الكيان، عبر نقط عدة من مدينة مكناس. فمنظر الوقوف في طابور طويل يتشكل من عشرات الأشخاص، وربما المئات في بعض الأحيان، والانتظام في صفوف طويلة، فرادى أو مثنى مثنى، وفي شوارع عمومية، لانتظار أن يحين الدوراحتراما للأسبقية، لابد أن يشد إليه انتباه كل من وقف على هذا المنظر الناذر، إن لم نقل بالاستثناء في عصر التزاحم والتهافت والاكتظاظ في كل الأماكن، والتدافع لنيل السبق أينما حللت وارتحلت. وهو فعل إن دل على شيء فإنما ينم عن فعل عقلاني رشيد، ويدل على نهل ساكنة مكناس من تربية وثقافة مستحكمة ومتفردة، قوامها التفاعل مع العصر، دون التأثر كليا بتقلباته وسلبياته، وهو سلوك ونضج حضاري قل نظيره في مغرب اليوم، ينشد التحضر في أزهى صوره ومعانيه، وبالتالي ترك انطباع جيد لدى الكل.
ولا يخفى علينا، ما تلعبه ثقافة الانتظام من دور راسخ في فرض وترسيخ شروط الاحترام بين الناس، وتقدير المرء لمسألة السابق أولى، والتخفيف من حدة التصادمات والمشاحنات التي تنتج عن الازدحام والتزاحم نتيجة الاكتظاظ والتدافع، مما يترك انطباعا جيدا لدى المواطن المكناسي ولدى كل زائر للمدينة. ومن شأن تكريس هذه الثقافة، تسويق السلوكات الجيدة بدل السلوكات المعوجة التي يعج بها الشارع المغربي، وبالتالي تشجيع الناس على زيارة مدينة مكناس وتطوير السياحة بها، إن داخليا أو خارجيا. فيكون المواطن المكناسي بذلك، مساهما عن وعي أو غير وعي، في خدمة مدينته وإعطاء صورة طيبة عنها، تكرس ماضيها المجيد، المليء بالأمجاد والبطولات، والزاخر بالمعالم والمآثر وقيم البساطة والاعتزاز بالنفس وحسن الضيافة، التي تشد إليها الزوار من كل حدب وقطب.
فإلى أي حد سيستطيع الزائر للمعرض الدولي للفلاحة التطبيع مع هذه الثقافة الراقية ؟ وهل بإمكان المكناسيين فرض الأمر الواقع، وجعل الزائر يمتثل لهذه الثقافة ويحترمها؟ أسئلة وغيرها ستجيبنا عنه أيام المعرض الدولي للفلاحة التي انطلقتدورتها التاسعة قبل يومين فقط.
الصورة مأخوذة من إحدى صفحات الفايسبوك التي تعنى بأخبار مكناس