في ظل التحولات التي عرفها العالم العربي عامة والمغرب بالخصوص والتي شملت جل الميادين ، سياسية و اقتصادية و اجتماعية، وموازاة مع شعارات الإصلاح والتحديث انطلاقا من مقاربة الحكامة والتدبير الجيد والمعقلن للصالح العام، في خضم  كل هذا التذبذب، نجد الإدارة المغربية تخضع في تنظيم العمل بها إلى المرسوم رقم 2.05.916 الصادر في 20 يونيو 2005 والمتعلق باعتماد التوقيت المستمر بإدارات الدولة والجماعات المحلية، هذا المرسوم الذي خلق (قبل المصادقة عليه) بلبلة وضجة كبيرة ومواقف وآراء تتأرجح بين مدعم ورافض ومحايد للفكرة ، لكن اليوم وبعد أن أضحى التوقيت المستمر أمرا واقعيا وتجربة لازالت الإدارة العمومية المغربية تعيشها ، وبعد مرور حوالي 9 سنوات على اعتماده وجب علينا استحضاره مرة أخرى والتساؤل عن مدى نجاعته وملائمته للإدارة العمومية المغربية وثقافة سكانها ؟(الموظفون والأعوان) .

   بداية فالمقصود قانونا بالتوقيت المستمر هو "العمل من الساعة الثامنة والنصف صباحا إلى الساعة الرابعة والنصف زوالا مع استراحة في منتصف النهار تقدر بنصف ساعة تخصص لأكل وجبة خفيفة "

    انطلاقا من هذا التعريف و بعد إلقاء نظرة على حال الإدارة العمومية ببلادنا خاصة في الشق المتعلق بضبط أوقات دخول و خروج الموظفين يتضح وجود فرق و بون شاسع بين ما هو مسطر قانونا و ما يتم تطبيقه على أرض الواقع، فلا أحد اليوم يستطيع إنكار استفحال ظاهرة التغيب الغير المشروع عن العمل، فهذه الظاهرة أصبحت واقعا معاشا لا يمكن التغاضي عنه، و لعل ما زاد الطين بلة هو نظام التوقيت المستمر هذا، والذي وضع في غير موضعه و لم يتم تكييفه ليساير طبيعة ثقافة المجتمع المغربي و عاداته، فالنعوت التي ينعت بها من قبيل "التوقيت المر" أو "الإعتقال المستمر" ما هي إلا دلائل تبين الرفض التام لهذا النظام .

    صحيح أن ظاهرة التغيب الغير المشروع عن العمل ليست وليدة التوقيت المستمر و حده، فهي ظاهرة متأصلة منذ القدم، لكن هذا المسمى "بالتوقيت المستمر" أعطى ضمانات أخرى للمتغيبين من قبيل ( الخروج لتناول و جبة الغذاء، تأدية الصلاة...) .

  ومن هذا المنطلق ففكرة التوجه إلى إدارة عمومية للحصول على وثيقة أو رخصة ما ، أو الإستفادة من خدمة معينة لا تراود المواطن في الفترة الصباحية قبل التاسعة أو التاسعة و النصف و الفترة المسائية ما بين الثانية عشر و الثانية بعد الزوال، وذالك لكون الغالبية العظمى من الموظفين لا يصلون إلى مقر عملهم إلا بعد الثامنة و النصف أو التاسعة صباحا لتتلوها مرحلة الماراطون  لتحية باقي الموظفين كفعل يؤكد مدى ترسيخ ثقافة الإحترام داخل النفوس العربية، و من ثم الإنشغال بترتيب المكتب الشيئ الذي يأخذ ما بين النصف ساعة و الساعة إن لم تكن أكثر، و بعدها يضع كل موظف بركته على تلك الوريقات ليقضي جزءا من مصالح المواطنين قبل أن تحل الساعة الثانية عشر كالمنبه الذي يدق ناقوس الخطر في معدته ، لتبدأ هنا استراحة النصف ساعة الممنوحة قانونا لتناول وجبة خفيفة (و التي يكيفها كل موظف حسب هواه) ففي غضون هذه الفترة تشل الحركة في الإداة العمومية المغربية و تنقطع الخدمات دون حياء أو خجل، ضاربين عرض الحائط مبدأ استمرار عمل المرفق العام بانتظام و اضطراد.

 وأكثر من هذا فيوم الجمعة له نكهة خاصة بإداراتنا ، فهناك عذر لا يمكن مناقشته و هو تأدية الصلاة ، فكل العاملين يتمسلمون من الساعة الحادية عشرة إلى الثانية و النصف بعد الزوال حتى يتخيل للبعض أنهم أصبحوا أولياء الله، فمن يناقش في الأمر ينعت بالكافر أو الملحد، حتى الموظفات فهن الأخريات يتشبثن بأعذار من قبيل الذهاب لإعداد الكسكس إلى غير ذلك، وفي هذه الفترة تجف الأقلام و تغلق الأبواب و تعطل مصالح العباد باسم الله و الدين و البطون.

  و في هذا الإطار تحضرني قصة زوجان مغربيان يعيشان في بلاد أجنبية شاءت الأقدار أن يتواجدا في بلادنا الحبيبة في الفترة التي ينهج فيها المغرب التوقيت المستمر ويظهر أنهما عانيا الأمرين من خلال، قول الزوجة لزوجها :

" الرومية تكتفي بقطعة خبز و شريحة خنزير و تقضي الغرض (أي تقوم بواجبها المهني ) أما المغربية فهي تقرأ القرآن في مكتبها ولا تستجيب له،( أي لا تقوم بواجبها ) عجبا   !!!هذه تأكل الحرام وتفعل الحلال و الأخرى تفعل الحلال و تأكل الحرام. ألا يفترض أن يكون العكس ؟؟

    اليوم و بعد العمل بهذا النظام يتضح بجلاء صدق التخوفات التي سبقت فترة تطبيقه حيث أن الممارسة أبانت على أنه رغم وجود بعض الإيجابيات من قبيل : إقتصاد نفقات التنقل المادية ، تلافي مخاطر حوادث السير، كسب المزيد من وقت الفراغ ، إلا أن سلبياته أكثر بكثير كما تم التطرق لها سلفا.

    لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن في هذا المقام هو ما سر نجاح تجربة التوقيت المستمر في النظم المقارنة و فشلها في النظام الإداري المغربي؟

    تتعدد أسباب إخفاق و فشل نظام التوقيت المستمر بالمغرب و يمكن أن نذكر منها :

- النفسية و العقلية المغاربية الكارهة للعمل عكس نظرائهم من اليابانيين مثلا .
- الإختلال الكبير الذي تعرفه منظومة الأجور .
- انعدام التجهيزات الضرورية للعمل بهذا النظام كتوفير مطاعم بأثمنة مناسبة و مرافق للصلاة داخل الإدارة .
- ضبابية النصف ساعة المخصصة للأكل إذ أنها تمتد و تتقلص بحسب رغبة كل موظف .
- ضعف التوعية القانونية لدى المواطنين .
- ثقافة الأكل الجماعية لدى المواطن المغربي المحبة للإلتفاف و الإجتماع حول المائدة لتناول وجبة الغذاء داخل دفئ الجو العائلي .

وفي الأخير لن أدع الفرصة تمر دون إعطاء بعض الحلول و التوصيات من قبيل :

* تجهيز الإدارات بمطاعم في المستوى و بأثمنة مناسبة

* إعادة النظر في نظام التوقيت المستمر و خاصة في الشق المتعلق بالنصف الساعة المخصصة لأكل وجبة خفيفة

* العمل بنظام البطاقات الإلكترونية لضبط أوقات الدخول و الخروج كما هو الحال في فرنسا مثلا

و كعبارة أخيرة فإن الإشكال لا يتعلق بشكل كبير بمستوى التجهيزات المتوفرة أو المساطر القانونية الرادعة و إنما يبقى المشكل مشكل عقليات و طقوس و أفكار سلبية تتوارث جيلا بعد جيل.

و كما يقول الله عز وجل في كتابه الكريم إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) .